هناك وتلاقينا مع المعارف واكتروا لي منزلا خاصا ذا أربع بيوت بجميع لوازم فرشها وخدامها بثلاثمائة فرنك في الشهر غير أن الأكل خارج عن ذلك بل يأتون به من إحدى أماكن الأكل القريبة هناك وهي كثيرة ، إذ كان المنزل على النهج العظيم في باريس المسمى «بلغاردي كابوسين» وهو من الأماكن الشهيرة بالعمران في باريس ، ثم إن كثرة قرقعة العجلات التي تفوق عن الرعد في ذلك الطريق ليلا ونهارا كدرت لي الإستقرار هناك حيث أنها لا يخف دويها إلا بعد نصف الليل بساعة وما يضيء النهار إلا وتعود لما كانت عليه ، فانتقلت إلى منزل آخر أوسع من الأول ويحتوي على مطبخ وبيت جلوس وبيت أكل وثلاثة بيوت للنوم بجميع لوازم ذلك كله مع تغيير الفرش والمناديل بالنظيفة ، والكراء قدره ثلاثمائة فرنك في الشهر وأحضرت طباخا بأربعين فرنكا في الشهر وخادما بشعرين فرنكا وكان المصروف اليومي على لوازم الأكل نحو العشرين فرنكا في اليوم مع الإقتدار على قبول بعض من الضيوف والإرتياح من الإحتراس في الأكل ، وكان هذا المحل أيضا بإحدى الأماكن الشهيرة النزهة المسمى «بشانزي لزي» لكنه لما كان طريقه شديد الإتساع ومحل مرور العجلات فيه يبعد عن حيطان الديار نحو العشرين مترو وكان تحصيب الطريق بالحصا المسواة بالرمل بخلاف الأول لأنه مبلط بالحجارة الصلبة التي في قطع الشبر فكانت أذية الدوي مفقودة في الثاني مع حصول المنظر الجميل.
واجتمعت في باريس بأشهر أطبائها في المرض العصبي إذ لكل نوع من الأمراض عندهم مشاهير مخصوصون به والحكيم الشهير في هذا المرض عندهم هو الحكيم «شاركو» وأحضر معه إليّ في بعض الأيام إثنين من مشاهير أطبائهم ، وكانت أجرة زيارة الواحد في المرة الواحدة ستين فرنكا وإذا يزار الحكيم في داره يعطى أربعين فرنكا ، ومما يدل على شهرة هذا الحكيم وغناه بعلمه أنه دعي يوما لمريض في بلد برلين قاعدة مملكة ألمانيا فذهب عشية الجمعة ورجع عشية الأحد في الرتل وأعطي خمسة عشر ألفا فرنكا لأجل تلك الزيارة وعلى ذلك فقس ، وهو إنما يقبل المرضى في يومين فقط من الإسبوع وبقية الأيام يقرىء فيها دروسا عالية في الطب العصبي ، وله مستشفى خاص بالأمراض العصبية تحت نظارته يحتوي على نحو ثمانية آلاف مريض ، ذكر لي يوما الطبيب فيفرو الذي هو بمعية الحكيم المشار إليه ومباشر للعلاج بالكهربا أن ذلك اليوم كان في المستشفى مرضى أخذوا الأكل سبعة آلاف وستمائة ونيف عدا من لم يستطع الأكل ومن كان ممنوعا منه ، وذكر أن المستشفى حوسب على الأطباق الزجاجية الموضوعة في أبواب الطواقي فإذا هي ثمانون ألف طبق ، وذلك الحكيم مع سعة معارفه هو بشوش مؤانس حتى صار ودود إلي وله ولزوجه ولوع كبير بالثياب والمفروشات والأواني وغيرها الصينية والمشرقية والعتيقية من صنائع أوروبا ، حتى كانت بيوت داره مكسوة بأشياء بديعة ذات قيمة عالية جدا تتجاوز مئات آلاف فرنك ، ومن مصائب الجهل بالألسن ما حصل لي يوما : وهو أن الطبيب أخبرني بأن المسكن الذي تعودت عليه بالإحتقان تحت الجلد ربما يتأنس به البدن فلا يبقى