مؤثرا ، ولذلك يريد أن يعمل وجها في ذلك وأن الأولى بي أن أنقص من مقدار الإستعمال منه بأن أصنع ربع المحقنة فقط هكذا أفهمني المترجم ، ثم أتى بالعلاج المسكن من الصيدلاني فتحير عليّ الألم بين العشائين كما هو عادة طروّه في الأغلب فعلت المقدار مثل ما قال الطبيب فلم يسكن ، وظننت أن الدواء هو المعتاد فزدت نصف محقنة. فلم ألبث قدر ثلاث دقائق إلا وأيقنت بالموت ووجدت ألما لم أعهده ولا أقدر على التعبير عنه ، وإنما أقول : أظلم الجوّ في نظري وأحسست بنفسي ساقطا في جب لا قعر له ، وغاية ما أدركت أن طلبت المصحف الكريم وضممته على صدري ، واستشعرت أني أتلو آية لقد جاءكم سبعا ولساني لا يكاد يصحح الحروف ولم أدر ما وراء ذلك فلم يبتدىء شعوري بالوجود إلا بعد نصف الليل بثلاث ساعات فرأيت أتباعي ومعارفي حولي يبكون وجميع ما أراه أحمر ثم رجع الإغماء ثم الإستيقاظ ولا زال الأمر يتدرج في الخفة إلى الصباح وأنا في غاية الضعف ، وسألت الطبيب عن السبب فأخبرني أن العلاج قد غيره بمسكن آخر يسمى «الأتروبينا» مضاد لمسكن «المرفينا» وأقوى منها بأضعاف كثيرة ، وأنه كان شدد الوصاية في التحذير منه للترجمان ، إذ ذاك المقدار الذي عملته يكفي لقتل عدة أشخاص وأن من لطف الله أن كان في مزاجي من «المرفينا» مقدار وافر من استعمالها سابقا حتى كانت مضادة لذاك السم القتال ولله الحمد على لطفه وعفوه وما ذاك إلا من جهل اللسان وإضرار المترجمين ، وقد أقمت بباريس في هاته السفرة نحو شهر ، ثم عدت إليها سنة ١٢٩٥ ه وأقمت بها شهرين ثم عدت سنة ١٢٩٦ ه وأقمت بها شهرا وها أنا أفرد لصفتها فصلا خاصا.
الفصل الثاني : في باريس وصفاتها
باريس وما أدراك ما باريس هي نزهة الدنيا وبستان العالم الأرضي وأعجوبة الزمان ، ولعمري إنها أحق بإسم مملكة من إسم مصر ، وهي أنموذج لغرائب مصنوعات البشر وحق للفرنساويين التفاخر بها ومباهاة الأمم بمحاسنها وجمالها وغناها ومعارفها ومصانعها ، فمهما فكرت في إحدى هاته إلا وقلت إن القوم قد انحصرت أعمالهم فيها ثم إذا التفت للأخرى تقول مثل ذلك وهكذا ، وكأنها فاقت على غيرها باجتماع الكل فيها فصدق عليها المثل : «كل الصيد في جوف الفرا» (١) ولو أراد الكاتب الإستقصاء في كل طرف مما احتوت عليه لضاقت عنه المجلدات واضطر إلى الإكتفاء بالإشارات ، وبالجملة فالواقف عليها يزداد يقينا في العلم بقدرة الخالق وأن أحوال الآخرة فوق عقولنا كما أخبر به الصادق الأمين عليه
__________________
(١) الفرا : حمار الوحش : وأصل المثل أن ثلاثة رجال خرجوا يصطادون فاصطاد أحدهم أرنبا والثاني ظبيا والثالث حمارا ، فاستبشر الأولان وتطاولا عليه ، فقال الثالث : «كل الصيد في جوف الفرا» أي أنه أعظم الصيد ، فمن ظفر به أغناه عن كل صيد. وقد ضربه النبي صلىاللهعليهوسلم مثلا لأبي سفيان حين قال له : أنت يا أبا سفيان كما قيل وكل الصيد في جوف الفرا ، يضرب في الواحد الذي يقوم مقام الكثير لعظمه. ولمن يفضل على أقرانه. انظر المستقصى ٢ / ٢٢٤ رقم ٧٥٦ ومجمع الأمثال للميداني ٢ / ١٦٢ رقم (٣٠١٠) وصبح الأعشى ١ / ٤٦٢