قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ويكفي في ثبوت هذا العلم الأحاديث المروية في صحيح البخاري ومنها : أن الرؤيا الصالحة جزء من ثلاثة وستين جزءا من النبوّة (١).
وأما سفرتي الثانية ، إلى فرنسا سنة ١٢٩٥ ه فكانت من تونس إلى مرسيليا توا بمرور الباخرة البريدية على بلد بونة من أعمال الجزائر ، وكان البحر في غاية الهدو حتى رأيت على سطح الماء قطعة من نبات بحري مثل قطع القطن المنفوش متكاثرة وهي قليلة الظهور وإنما ترى عندما يكون الماء في غاية السكون ، كما رأيت أعمدة من البحر منبعثة بقوة مثل أعظم الفوالق فأخبرني أنها من نوع سمك يفعل ذلك وأن منها العظيم الذي إذا صادف عمله ذلك إحدى السفن الصغيرة ربما أغرقها وهو من عجائب المرئيات ، وكذلك عند رجوعي من هاته السفرة كان البحر مثل ذلك إلى أن وصلنا إلى بلد الجزائر وكان الوصول إليها صباحا بعيد الشروق لكنا لم نر البر ، وكان السفن أخبرنا بالوصول لكنه لما لم ير البر مع تيقنه بالحساب للوصول التزم الوقوف وذلك لكثرة الضباب المتكاثف ذلك الصباح فما انقشع الضباب بحر الشمس إلا ووجدنا البركانة في مقدم الباخرة والمرسى عن يمينها ، فكان من لطف الله التدارك بالوقوف والتزمت الباخرة أن ترجع القهقرى إلى أن تيسر لها الدوران ودخلت المرسى ، وسيأتي الكلام على مملكة الجزائر في باب مخصوص.
وأما السفرة الثالثة : فكانت على طريق إيطاليا ومنها إلى فرنسا ومنها إلى انكلاتيرة وهكذا الرجوع ولم يكن البحر إذ ذاك إلا على ما هو معتاد ومما حدث في الوطن في سفرتي الأولى وبلغني خبره وأنا في باريس ظهور دعوى وقعت لها طنطنة من الشيخ المسن التقي أحمد بن المهدي في العمل بالسنة حسب إدراك كل من فهمها وترك الأخذ بأقوال الأئمة المجتهدين ، واختلفت الروايات في الواقعة ومدارها تصميمه على رأيه وتعصب العلماء عليه إلى أن حكموا بنفيه ، فارتحل إلى مكة المكرمة ومات بها رحمهالله.
وتحرير الكلام على المسألة باختصار حسبما وعدنا به في الكلام على أئمة جزيرة العرب هو أن يقال إن الشيخ المذكور هو من تلامذة الشيخ السنوسي (٢) ذي السيط الشهير
__________________
(١) الحديث نحوه في : البخاري برقم (٦٩٩٠ ـ ٦٩٨٩) وفي سنن ابن ماجه برقم (٣٨٩٧) وفي مسند الإمام أحمد ١ / ٣١٥ ، ٢ / ١٨ ، ٤ / ١٠ ، ٥ / ٤٥٤ وفي مجمع الزوائد ٣ / ١٧٣ وفي التمهيد لابن عبد البر ١ / ٢٨١ وفي دلائل النبوة للبيهقي ٧ / ٩ وفي الكامل لابن عدي (١٤٧٣) وفي الدر المنثور ٣ / ٣١٣ وفي مشكاة المصابيح (٤٦٠٨) وفي اتحاف السادة المتقين ١ / ٢٢٦ ، ٩ / ٢٧٣ و ١٠ / ٤٢٤ وفي كنز العمال (٤١٤٠١ ـ ٤١٤٠٤).
(٢) هو محمد بن علي بن السنوس أبو عبد الله السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي (١٢٠٢ ـ ١٢٧٦ ه) زعيم الطريقة السنوسية الأول ومؤسسها. ولد في مستغانم من أعمال الجزائر وتعلم بفاس وتصوف وبنى زاوية في جبل أبي قبيس ، ثم رحل إلى برقة سنة (١٢٥٥ ه) وأقام في الجبل الأخضر فبنى الزاوية البيضاء. وكثر تلاميذه وانتشرت طريقته فارتابت الحكومة العثمانية في أمره فانتقل إلى واحة جغبوب فأقام بها إلى أن توفي فيها ، له نحو أربعين كتابا ورسالة. منها : «الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية». الأعلام ٦ / ٢٩٩ ، فهرس الفهارس ١ / ٦٨ وشجرة النور الزكية ١ / ٣٩٩.