لأبى بكر : أما إنك كنت وليتنى أمر الناس ، وأنت لى غير متهم ، ورأيك فىّ حسن حتى خوفت منى أمرا ، والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفنى الطير فى الهواء بين الأرض والسماء أحب إلىّ من أن يكون ما ظن ، والله ما أنا فى الإمارة براغب ، ولا على البقاء فى الدنيا بحريص ، وإنى أشهدكم أنى وإخوتي وفتيانى ومن أطاعنى من أهلى جيش فى سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت ، لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم ، فقال له الناس خيرا ، ودعوا له به ، وقال أبو بكر رحمهالله : أوتيت فى نفسى وولدى ما أحب لك ولإخوتك ، والله إنى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده ، وإقامة كتابه ، واتباع سنة رسوله (١).
فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه ، فكان أول خلق الله عسكر ، ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فى كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا ، فخرج أبو بكر ذات يوم ، ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة ، فلم يرض كثرتها للروم ، فقال لأصحابه : ما ذا ترون فى هؤلاء؟ أترون أن نشخصهم إلى الشام فى هذه العدة؟ فقال له عمر : ما أرضى بهذه العدة لجموع بنى الأصفر ، فأقبل على أصحابه فقال : ما ذا ترون؟ فقالوا : ونحن أيضا ، نرى ما رأى عمر ، فقال أبو بكر : أفلا نكتب كتابا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم فى ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه ، فقالوا : نعم ما رأيت ، فافعل.
فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إلى من قرئ عليه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن ، سلام عليكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإن الله تبارك وتعالى ، كتب على المسلمين الجهاد ، وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا ، فقال جل ثناؤه : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الصف : ٩] ، فالجهاد فريضة مفروضة ، وثوابه عند الله عظيم ، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ، وقد سارعوا إلى ذلك ، وعسكروا وخرجوا ، وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم ، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم ، وإلى إحدى الحسنيين : إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة ، إن الله جل ذكره ، لم يرض من عباده بالقول دون العمل ، ولا بترك الجهاد فيه أهل عداوته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب ، حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم ، وزكى أعمالكم ، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين ، والسلام عليكم.
__________________
(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٧ ، ٣٨٨).