عليه ثم جلس ، فقال له : ما تنتظر ببعثة هذه الجنود؟ قال : ما كنا ننتظر إلا قدومكم ، قال : فقد قدمنا ، فابعث الناس الأول فالأول ، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع(١).
قال : فعند ذلك خرج أبو بكر رضياللهعنه ، يمشى ، فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له ، ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤيّ فعقد له ، ثم قال له : أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه ، ثم قال ليزيد : إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل ، فإنه من فرسان العرب وصالحاء قومك ، وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين ، فقال يزيد : لقد زاده إلىّ حبا حسن ظنك به ورجاؤك فيه ، ثم إنه خرج معه يمشى ، فقال له يزيد : يا خليفة رسول الله ، إما أن تركب ، وإما أن تأذن لى فأمشى معك ، فإنى أكره أن أركب وأنت تمشى ، فقال أبو بكر رضياللهعنه : ما أنا براكب ، وما أنت بنازل ، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله ، ثم أوصاه فقال :
يا يزيد ، إنى أوصيك بتقوى الله وطاعته ، والإيثار له ، والخوف منه ، وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن ، ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل ، وستمرون بقوم فى هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له ، وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رءوسهم كأن أوساطها أفاحيص (٢) القطا ، فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رءوسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب. وأقرأ عليك السلام ، وأستودعك الله.
ثم أخذ بيده فودعه ، ثم قال : إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع فى الناس ، ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة فى الدين ، فأحسن صحبتهم ، وألن لهم كتفك ، واخفض لهم جناحك ، وشاورهم فى الأمر ، أحسن أحسن الله لك الصحابة ، وعلينا الخلافة.
فخرج يزيد فى جيشه قبل الشام ، وكان أبو بكر رحمهالله ، كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة ، ويدعو بعد صلاة العصر ، فيقول : اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا ،
__________________
(١) الخف : الإبل. والكراع : الخيل.
(٢) أفاحيص : جمع أفحوص ، وهو التراب ، تتخذ فيه طيور القطا مساكن لها.