اخرج أنت ومن معك من بلادنا التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب ، فلستم لها بأهل ، وارجعوا إلى بلادكم ، بلاد البؤس والشقاء ، وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به ، ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف.
فرد عليهم أبو عبيدة : أما قولكم : أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل ، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم ، وإنما البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، والله ملك الملوك ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء. وأما قولكم فى بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء ، فصدقتم ، إنها لكذلك ، وقد أبدلنا الله بها بلادكم ، بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب ، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها ، ولكن أقيموا ، فو الله لا نجشمكم أن تأتونا ، ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا ، فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم ، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى.
فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم ، فأرسلوا إليهم ، أن ابعثوا إلينا رجلا من صالحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه ، ونخبره بذات أنفسنا ، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم.
فأرسل إليهم أبو عبيدة ، معاذ بن جبل ، فأتاهم على فرس له ، فلما دنا منهم نزل عن فرسه ، ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده ، فقالوا لبعض غلمانهم : انطلق إليه فأمسك له فرسه ، فجاء الغلام ليفعل ، فقال له معاذ : أنا أمسك فرسى ، لا أريد أن يمسكه أحد غيرى ، وأقبل يمشى إليهم ، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها ، فلما دنا من تلك الثياب قام قائما ، فقال له رجل منهم : أعطنى هذه الدابة أمسكها لك ، وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم ، فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم ، وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه ، فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم.
فقال لهم معاذ ، والترجمان يفسر لهم ما يقول : إن نبينا صلىاللهعليهوسلم أمرنا أن لا نقوم لأحد من خلق الله ، ولا يكون قيامنا إلا الله فى الصلاة والعبادة والرغبة إليه ، فليس قيامى هذا لكم ، ولكن قمت إعظاما للمشى على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم ، وإنما هى من زينة الدنيا وغرورها ، وقد زهد الله فى الدنيا وذمها ، ونهى عن البغى والسرف فيها ، فأنا أجلس هاهنا على الأرض ، وكلمونى أنتم