بحاجتكم من ثم ، وأقيموا الترجمان بينى وبينكم ، يفهمنى ما تقولون ، ويفهمكم ما أقول ، ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له : لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك ، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك ، وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك.
فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه ، وقال للترجمان : قل لهم : إن كانت هذه المكرمة التي تدعوننى إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هى للدنيا ، فلا حاجة لنا فى شرف الدنيا ولا فى فخرها ، وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التي فى أيدى عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت فى يده منكم عند الله ، فهذا خطأ من قولكم ، وجور من فعلكم ، ولا يدرك ما عند الله بالخطإ ، ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة فى الدنيا.
وأما قولكم إن جلوسى على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ، ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت ، أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله ، ولا أستأثر من مال الله بشيء على إخوانى من أولياء الله ، وأما قولكم أزريت بنفسى فى مجلسى ، فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله ، فلست أبالى كيف كانت منزلتى عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك ، وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا ، لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله ، الذين لا يشغلون أنفسهم بالدنيا ، ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة.
فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه ، وقالوا لترجمانهم : قل له : أنت أفضل أصحابك؟ فلما قال له ، قال : معاذ الله أن أقول ذلك ، وليتنى لا أكون شرهم ، فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه ، وتكلموا فيما بينهم ، فلما رأى ذلك قال لترجمانهم : إن كانت لهم حاجة فى كلامى وإلا انصرفت عنهم ، فلما أخبرهم قالوا : قل له : أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون؟ ولما ذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد ، وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه ، وإنما يملكهم اليوم النساء ، ونحن ملكنا حى وجنودنا عظيمة ، وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا ، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض؟ وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟.