ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر. قال : وما بالكم كما تصفون ، وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ : ما أرانى إلا قد علمت من أين هذا. قال له : ومن أين هذا؟ قال : من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وإنا نشرب الخمر ، ونرتكب المحارم ، وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضيه ونفسد فى الأرض. قال : صدقتنى ، لأخرجن من هذه القرية ، ولأدعن هذه البلدة ، وما لى فى صحبتكم من خير وأنتم هكذا. قال : نشدتك الله أيها الملك أن تفعل ، تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد؟ قال : قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين ، وفحل ، ودمشق ، والأردن ، وفلسطين ، وحمص ، وفى غير موطن ، كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون. قال الشيخ : حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر ، لم يلقهم منهم إنسان ، ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا؟ (١).
فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء ، وسيأتى خبرهم بعد إن شاء الله.
وذكر الطبرى (٢) عن سيف : أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضى إليها ، وقال له : إنه بلغنى يعنى عن المسلمين ، أن طعامهم لحوم الإبل ، وشرابهم ألبانها ، وهذا الشتاء ، فلا تقاتلوهم إلا فى كل يوم بارد ، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه ، وشرابه ، وارتحل فى عسكره ذلك حتى أتى الرها.
وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص ، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها ، فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم فى كل يوم بارد ، ولقى المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا. فأما المسلمون فصبروا ورابطوا ، وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر ، حتى انصرم الشتاء ، وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون : تمسكوا فإنهم جفاة ، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون ، فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم فى خفافهم ، وإن المسلمين لفى النعال ما أصيب إصبع أحد منهم ، حتى إذا انخمس الشتاء ، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين ، قالوا : كيف والملك فى عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شيء؟ فتركهم ، وقام فيهم آخر وقال : ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون؟
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٩ ـ ١٥١).
(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠).