دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله ، لا يرى منهم إلا أعينهم ، وفى أيديهم العمد ، جاءنا الترجمان فقال : أيكما خالد؟ فقال خالد : أنا ، فقال: أقبل أنت وليرجع هذا ، فقام خالد وقال : هذا رجل من أصحابى ولست استغنى عن رأيه ، فرجع إلى باهان فأخبره ، فقال : دعوه فليأت معه ، فأقبلنا نحوه ، فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة ، فقالوا لى : ضع سيفك ، ولم يقولوا لخالد شيئا ، فنظرت ما يقول لى خالد ، فقال لهم : ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا ، وقد بعثتم إلينا فأتيناكم ، فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم ، وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم ، فرجع الترجمان إلى باهان فأخبره ، فقال : دعوهما ، فأقبلنا إليه ، فرحب بخالد وأجلسه معه ، وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما ، وحيث أسمع كلامهما ، فقال باهان لخالد : إنك من ذوى أحساب العرب ، فيما ذكر لى ، ومن شجعانهم ، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء ، والعاقل ينفعك كلامه ، والوفى يصدق قوله يوثق بعهده.
فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد : إن نبينا صلىاللهعليهوسلم قال لنا : إن حسب المرء دينه ، ومن لم يكن له دين فلا حسب له ، وقال لنا : إن أفضل الشجاعة وخيرها فى العاجلة والعاقبة ما كان منها فى طاعة الله ، وأما ما ذكرت أنى أوتيت عقلا ووفاء ، فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا ، وهو المحمود عندنا ، وقد قال لنا نبينا صلىاللهعليهوسلم : إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه ، قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، ثم قال له : وعزتى ما خلقت من خلقى شيئا هو أحب إلىّ منك ، بك أحمد ، وبك أعبد ، وبك أعرف ، وبك تنال طاعتى ، وبك تدخل جنتى ، ثم قال خالد : والوفاء لا يكون إلا من العقل ، فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له ، ومن لا وفاء له لا عقل له. فقال له باهان : أنت أعقل أهل الأرض ، ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال ، ثم قال لخالد : أخبرنى عنك ، وأنت هكذا تحتاج إلى مشورة هذا الرجل؟ فقال له خالد : وأعجب من ذلك أن فى عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغنى عن رأيه ولا عن مشورته ، فقال باهان : ما كنا نظن ذلك عندكم ، ولا نراكم به ، فقال له خالد : ما كل ما تظنون ونظن يكون صوابا ، فقال باهان : صدقت ، ثم قال له : إن أول ما أكلمك به أنى أدعوك إلى خلتى ومصافاتى ، فقال له خالد : كيف لى ولك أن يتم هذا فيما بينى وبينك وقد جمعتنى وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى تصير البلدة لأحدنا ، فقال له باهان : فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا يهراق دم ولا يقتل قتيل ، قال خالد : إن شاء