قال : فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم.
وكتب باهان إلى قيصر : أما بعد ، نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر ولدينك وسلطانك العز ، فإنك بعثتنى فيما لا يحصيه من العدد إلا الله ، فقدمت على القوم ، فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا ، وأطمعتهم فلم يطمعوا ، وخوفتهم فلم يخافوا ، وسألتهم الصلح فلم يقبلوا ، وجعلت لهم الجعل على أن ينصرفوا فلم يفعلوا ، وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا ، وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم ، والرعب قد دخل قلوبهم ، إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم ، ولا شكاك فى دينهم ، ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا ، وقد جمعت أهل الرأى من أصحابى ، وأهل النصيحة لملكنا وديننا ، فاجتمع رأيهم على النهوض إليهم جميعا ، فى يوم واحد ، ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال : وكان باهان قد رأى رؤيا ، فذكرها لملك الروم فى كتابه هذا ، فقال له : وقد أتانى آت فى منامى ، فقال لى : لا تقاتل هؤلاء القوم ، فإنهم يهلكونك ويهزمونك ، فلما انتبهت عبرت أنه من الشيطان ، أراد أن يحزننى ، فخسأته (١) ، فإن يكن الشيطان فقد خسأته ، وإن لم يكن فقد بين لى الأمر ، فابعث أنت أيها الملك بثقلك وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك ، وانتظر وقعتنا هذه ، فإن أظهرنا الله عليهم حمدت الله الذي أعز دينك ومنع سلطانك ، وإن هم ظفروا علينا ، فارض بقضاء الله ، واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك ، فلا تأسف منها على ما فاتك ولا تغتبط منها بشيء مما فى يديك ، والحق بمعاقلك ودار مملكتك ، وأحسن إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك ، وارحم الضعفاء والمساكين ترحم ، وتواضع لله يرفعك ، فإن الله لا يحب المتكبرين ، والسلام.
قال : ثم إن باهان خرج إلى المسلمين فى يوم ذى ضباب ورذاذ ، وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها ، ثم جعل على ميمنته ابن قماطر ، ومعه جرجير فى أهل أرمينية ، وجعل الدرنجار فى ميسرته ، وكان من خيارهم ونساكهم ، فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال وقد ملأوا الأرض ، فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم ، نهضوا إلى راياتهم ، وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ، وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضياللهعنه ، أمرهم إلى أبى عبيدة بن الجراح ،
__________________
(١) خسأ : طرد وأبعد ودحر. انظر : اللسان (١١٥٥).