ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه ، فقالوا له : إن هؤلاء قد زحفوا لنا هذا اليوم المطير ، وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يطلوا (١) بعسكرنا ويضطرونا إلى ذلك ، قال : أصبتم ، ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم على مراكزهم ، وأقبلت الروم فى المطر ، فوقفوا ساعة وتصبروا عليه ، فلما رأوا أن المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم ، ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان على دين النصرانية فقال له : ادخل فى عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما هديهم ، وما يصنعون ، وكيف سيرتهم ، ثم القنى بها ، فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر المسلمين فلم يستنكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه ، فمكث فى عسكرهم ليلة حتى أصبح ، فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم فى النهار ، ثم أصبح فأقام عامة يومه ، ثم خرج إليه ، فقال : جئتك من عند قوم يصومون النهار ، ويقومون الليل ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، رهبان بالليل ، وأسد بالنهار ، لو سرق ملكهم فيهم لقطعوه ، ولو زنى لرجموه ، لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى ، فقال : لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.
فلما كان من الغد خرجوا أيضا ، فى يوم ذى ضباب ، وأتى المسلمين رجال من العرب كانوا نصارى فأسلموا ، فقال لهم أبو عبيدة وخالد : ادخلوا فى عسكر الروم واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم ، فإن لكم فى هذا أجرا ، والله حاسبه لكم جهادا ، فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك ، فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم ، ثم جاءوا بعد ما مضى من الليل نصفه ، فأتوا أبا عبيدة فقالوا له : إن القوم قد أوقدوا النيران ، وهم يتبعون لكم ويتهيّئون للقائكم ، وهم مصبحوكم بالغداة ، فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن ، فخرج أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ، فعبئوا الناس وصفوهم ، فلم يزالوا فى ذلك حتى أصبحوا.
وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى ، قال (٢) : صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة فى عسكره فى الغداة التي لقينا فيها الروم باليرموك ، فقرأ فى أول ركعة بالفجر وليال عشر ، فلما مر بقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ
__________________
(١) يلطوا : لط الشيء يلطه لطا : ألزقه ولزمه. انظر : اللسان (٤٠٣٤).
(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢١٢).