ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم ، فقال لهم ملكهم : ويحكم ، هذا كاذب ، وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم ، سلوه ما جاء به ، فلعمرى ما هو ببريد ، ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغى له أن يكون إلا مع أميره مقيما ، فما كان بأسرع من أن جاء آخر ، فقال له : ويحك ، ما وراءك؟ فقال : هزم الله العدو وأهلكهم ، قال له هرقل : فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك؟.
وفرح أصحابه وقالوا : صدقك أيها الملك ، فقال لهم : ويحكم ، أتخادعون أنفسكم ، إن هؤلاء والله لو كانوا ظهروا أو ظفروا ما جاؤكم على متون خيولهم يركضون ، ولسبقهم البريد والبشرى ، قال : فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية ، يقال له حذيفة بن عمرو ، وكان نصرانيا ، فقال قيصر : ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا ، فلما دنا منه قال له : ما عندك؟ قال : الشر ، قال : وجهك الذي بشرنا بالشر ، ثم نظر إلى أصحابه ، فقال : خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء ، فإنهم لكذلك إذ جاءه رجل من عظماء الروم ، فقال له الملك : ما وراءك؟ قال : الشر ، هزمنا. قال : فما فعل أميركم باهان؟ قال : قتل ، قال : فما فعل فلان وفلان ، يسمى له عددا من أمرائه وبطارقته وفرسانه ، فقال : قتلوا ، فقال له : لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا.
ثم قال لشرطه : أنزلوه ، فأنزلوه ، فجاءوا به ، فقال له : ألست كنت أشد الناس علىّ فى أمر محمد نبى العرب حين جاءنى كتابه ورسوله ، وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعانى إليه وأدخل فى دينه ، فكنت أنت من أشد الناس علىّ حتى تركت ما أردت من ذلك؟ فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطانى ، وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتنى من الدخول فى دينه؟ اضربوا عنقه ، فقدموه فضربوا عنقه ، ثم نادى فى أصحابه بالرحيل راجعا إلى القسطنطينية ، فلما خرج من الشام وأشرف على أرض الروم استقبل الشام ، فقال : السلام عليك يا سورية ، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا ، ثم قال : ويحك أرضا ، ما أنفعك لعدوك ، لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير.
وعن عمرو بن عبد الرحمن (١) : أن هرقل حين خرج من أنطاكية ، أقبل حتى نزل الرها ، ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية ، وأقبل خالد فى طلب الروم حتى دخل أرض قنسرين ، فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها ، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم ، فطلبوا الصلح والأمان ، فقبل منهم أبو عبيدة فصالحهم ، وكتب لهم أمانا.
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٣٧).