قال : ثم خرج عمر رحمهالله ، من الجابية إلى إيلياء ، فخرج إليه المسلمون يستقبلونه ، وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين ، وأقبل هو على جمل له ، وعليه رحله ، وعليه صفة من جلد كبش حولى ، فانتهى إلى مخاضة ، فأقبلوا يبتدرونه ، فقال للمسلمين : مكانكم ، ثم نزل عن بعيره ، فأخذ بزمانه وهو من ليف ، ثم دخل الماء بين يدى جمله ، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبى عبيدة ، فإذا معهم برذون يجنبونه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، اركب هذا البرذون ، فإنه أجمل بك وأهون عليك فى ركوبك ، ولا نحب أن يراك أهل الذمة فى مثل هذه الهيئة التي نراك فيها ، واستقبلوه بثياب بيض ، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون ، وترك الثياب ، فلما هملج به البرذون ، نزل عنه ، وقال : خذوا هذا عنى ، فإنه شيطان ، وأخاف أن يغير على قلبى ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لو لبست هذه الثياب البيض ، وركبت هذا البرذون لكان أجمل فى المروءة وأحسن فى الذكر وخيرا فى الجهاد. فقال عمر رضياللهعنه : ويحكم ، لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا ، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء ، فنزل بها ، فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمى ، وقد لبسوا لباس الروم ، وتشبهوا بهم فى هيئتهم ، فقال عمر : احثوا فى وجوههم التراب ، حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا ، وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج ، فأمر بهم فحرق عليهم.
وفى غير هذا الحديث مما ذكره سيف (١) : أن خالد بن الوليد لقى عمر عند مقدمة الجابية فى الخيل ، عليهم الديباج والحرير ، فنزل ، وأخذ الحجارة فرماهم بها ، وقال : سرعان ما لفتم عن رأيكم ، إياى تستقبلون فى هذا الزى ، وإنما شبعتم منذ سنتين ، سرعان ما نزت بكم البطنة ، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنها يلامقة ، وإن علينا السلاح ، قال : فنعم إذا.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى (٢) ، فقال يزيد بن أبى سفيان : يا أمير المؤمنين ، إن الثياب والدواب عندنا كثيرة ، والعيش عندنا رفيع ، والسعر رخيص ، وحال المسلمين كما تحب ، فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفرة ، وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير ، كان أبعد الصوت ، وأزين لك فى هذا الأمر ، وأعظم لك فى الأعاجم. فقال له : يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبى ، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشيننى عند ربى ، ولا أريد أن يعظم أمرى عند الناس ويصغر عند الله.
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٧).
(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٣).