وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا ، وظنوا أنهم أوهن أمرا ، وأضعف من أن يخرجوا عليهم ، فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم ، فجال المسلمون جولة منكرة.
ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشى إليهم ، حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا ، وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم ، وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم ، فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم ، ونهض بالرجال فى وجوههم ، ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا ، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا ، وركب بعضهم بعضا ، فبعض دخل المدينة ، وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها ، وقتل الله منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف ، فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزى والقتل ، وما صيرهم إليهم من الذل ، قال لمعاوية : أقم عليها حتى يفتحها الله ، وانصرف يزيد عنها.
فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه ، وذلك سنة تسع عشرة ، وكانت هى وجلولاء فى سنة واحدة ، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا ، لأنه لم يبق بالشام فى أقصاها وأدناها عدو حينئذ ، وقد نفى الله المشركين عنها ، وصار الشام كله فى أيدى المسلمين.
وكتب يزيد إلى عمر : أما بعد ، فإن رأى أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به ، وبارك له ولأهل طاعته فيه ، وإنى أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة ، وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل ، وكدهم الأخسر ، ويجعل لنا عليهم الظفر ، فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم ، وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان ، وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم ، وانحجزوا فى مدينتهم ، فأطلنا حصارهم ، وقطعنا موادهم ، وميرتهم ، وضيقنا أشد التضييق عليهم ، فلما جهدوا هزلا وأزلا ، فتحها الله علينا ، والحمد لله رب العالمين.
فكتب إليه عمر ، رحمهالله : أما بعد ، فقد أتانى كتابك ، وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين ، والحمد لله رب العالمين ، فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم ، وإن الله قد كفاكم مئونة عدوكم ، وبسط لكم فى الرزق ، ومكن لكم فى البلاد ، (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، والسلام عليك.
فلما أتى يزيد هذا الكتاب ، قرأه على المسلمين ، فحمدوا الله على ما أنعم عليهم ،