وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك ، فأمر بجزر فنحرت ، فبطحت فى الماء والملح ، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم ، وجلس وأذن لأهل مصر ، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين ، فأكلوا أكلا عربيا ، انتشلوا وحسوا وهم فى العباء ولا سلاح ، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة ، وتقدم إلى أمراء الأجناد فى الحضور بأصحابهم من الغد ، وأمرهم أن يجيئوا فى ثياب أهل مصر وأحذيتهم ، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ، ففعلوا ، وأذن لأهل مصر ، فرأوا غير ما رأوا بالأمس ، وقام عليهم القوم بألوان مصر ، فأكلوا أكل أهل مصر ، ونحوا نحوهم ، فافترقوا وقد ارتابوا.
وبعث إليهم : أن يتسلحوا غدا للعرض ، وغدا على العرض ، وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم ، ثم قال : إنى قد علمت أنكم رأيتم فى أنفسكم أنكم فى شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم ، فخشيت أن تهلكوا ، فأحببت أن أريكم حالهم ، كيف كانت فى أرضهم ، ثم حالهم فى أرضكم ، ثم حالهم فى الحرب فظفروا بكم ، وذلك عيشهم ، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم فى اليوم الثانى ، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم فى اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثانى وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرقوا وهم يقولون : لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر ، رحمهالله ، ذلك ، فقال لجلسائه ، يعنى عمرا : والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره ، إن عمرا لعض ، ثم أمّره عليها وأقام بها.
وذكر ابن عبد الحكم أن عمر ، رضياللهعنه ، كتب أن يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص ، ويظهروا مناطقهم ، ويجزوا نواصيهم ، ويركبوا على الأكف عرضا ، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى ، ولا يضربوا على النساء ، ولا على الولدان ، ولا يدعوهم يتشبهون (١) بالمسلمين فى لبوسهم (٢).
قال : ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بأن عطاءهم قائم ، وأرزاق عيالهم جارية ، فلا يزرعون ، يعنى الأجناد ، ولا يزارعون.
فأتى شريك بن سمى الغطيفى إلى عمرو بن العاص فقال : إنكم لا تعطوننا ما يحبسنا أفتأذن لى بالزرع؟ فقال له عمرو : ما أقدر على ذلك ، فزرع شريك بغير إذنه ، فكتب
__________________
(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٥١).
(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٦٢).