بمثل ذلك ، فافتتحوا الدور والديران ، وأكثروا القتل ، فنادى القسيسون والرهبان : يا أهل القصور ، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور : يا معشر العرب ، قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.
وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة ، وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه فى بردين أخضرين ، فقالوا له : يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء ، ثم تتابعوا على ذلك. فخرج وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد ، فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله ، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين ، وبدأ بأصحاب عدى بن عدى وقال : ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدى : بل عرب عاربة وأخرى متعربة ، فقال : لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟! فقال له عدى : ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية ، فقال : صدقت. اختاروا واحدة من ثلاث : إما أن تدخلوا فى ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم فى دياركم ، أو الجزية ، أو المنابذة والمناجزة ، فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة. فقال : بل نعطيكم الجزية ، فقال خالد : تبا لكم ، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة ، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان : أحدهما عربى فتركه واستدل الأعجمى. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا ، وتتابعوا على ذلك ، وأهدوا له الهدايا ، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبى بكر الصديق ، فقبلها أبو بكر ، رضياللهعنه ، من الجزاء ، وكتب إلى خالد : أن احسب لهم هديتهم من الجزاء ، إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك.
وفى حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره : أن أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون فى حوائجهم عمرو بن عبد المسيح ، فقال له خالد : كم أتت عليك؟ قال : مئو سنين ، قال : فما أعجب ما رأيت؟ قال : رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة ، وتخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا ، فتبسم خالد ، قال :
هل لك من شيخك إلا عقله |
|
خرفت والله يا عمرو |
ثم أقبل على أهل الحيرة وقال : ألم يبلغنى أنكم خبثة خدعة مكرة؟ فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو ، وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله ، ويستدل به على صحة ما حدثه به ، فقال : وحقك أيها الأمير ، إنى لأعرف من أين جئت؟ قال : فمن أين جئت؟ قال : أقرب أم أباعد؟ قال : ما شئت ، قال :