وكان عمر ، رضياللهعنه ، يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون ، فلما رأى ذلك يزدجرد من أمرهم ، وعلم أنهم غير منتهين ، وأنه إن أقام لم يتركوه ، وشكا إليه عظماء أهل فارس من نزولهم القادسية ، وإخرابهم البلاد بالغارات ، ورستم كاف عنهم ، مقيم بإزائهم ، أمر رستم بالشخوص لمناجزتهم ، ورأى رستم أن ينزل بينهم وبين العتيق ، ثم يطاولهم مع المنازلة ، ورأى أن ذلك أمثل ما هم عاملون ، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم وتدور لهم سعود.
وعن سيف (١) عن رجاله ، قالوا : وجعلت السرايا تطوف ، ورستم بالنجف ، والجالينوس بين النجف والسيلحين ، وذو الحاجب بين رستم والجالينوس ، وقال الناس لسعد : قد ضاق بنا المكان فأقدم ، فزجر من كلمه بذلك ، وقال : إذا كفيتم الرأى فلا تكلفوا ، فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأى ، فاسكتوا ما سكتنا عنكم.
وعن أبى عثمان النهدى (٢) أن سعدا ، رحمهالله ، لما نزل رستم النجف بعث الطلائع ، وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس ، فأخرج طليحة فى خمسة ، وعمرو بن معدى كرب فى خمسة ، وذلك صبيحة قدم رستم الجالينوس وذا الحاجب وهم لا يشعرون بفصولهم من النجف ، فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الصفوف قد ملؤها ، فقال بعضهم : ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم وهو يرى أن القوم بالنجف فأخبروه الخبر ، وقال بعضهم : ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم. فقال عمر لأصحابه : صدقتم ، وقال طليحة لأصحابه : كذبتم ، ما بعثتم لتخبروا عن السرح ، أو ما بعثتم إلا للخبر ، قالوا : فما تريد؟ قال : أريد أن أخالط عسكر القوم أو أهلك ، قالوا : أنت رجل فى نفسك غرر ، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن ، فارجع معنا ، فأبى. وأتى سعد الخبر برحيل فارس ، فبعث قيس بن هبيرة ، وأمره على مائة ، وعليهم أن لقيهم ، فانتهى إليهم وقد افترقوا ، وفارقهم طليحة ، فرجع بهم قيس فأخبروا سعدا بقرب القوم ، ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم ، وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم.
فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم فى ناحية العسكر ، فإذا فرس لم ير فى خيل القوم مثله ، وفسطاط أبيض لم ير مثله ، فانتضى سيفه ، فقطع مقود الفرس ، ثم ضمه إلى مقود فرسه ، وحرك فرسه فخرج يعدو به ، ونذر به القوم ، فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول ، فخرجوا فى طلبه ، فلحقه وقد أصبح فارس من الجند ، فلما غشية وبوّأ له الرمح
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥١٠).
(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥١٢ ـ ٥١٤).