فخفت أن يأخذ علىّ مضيق أو بعض جبالها ، ومضى طليحة فأبطأ حتى ساء ظن الناس به ، فعلم علمهم ثم رجع فلم يمر بجماعة إلا كبروا ، فأنكر ذلك منهم ، وقال : ما لكم تكبرون إذا رأيتمونى؟ قالوا : ظننا أنك فعلت كفعلتك. قال : لو لم يكن دين لحميت أن أجزر العرب هذه الأعاجم الطماطم ، وأخبر الناس بعدة القوم وكثرتهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأقام النعمان أياما حتى استجم الناس أنفسهم وظهرهم ، فلما كان يوم الأربعاء من بعض تلك الأيام دنا من عسكر المشركين ، وقال : إن أمير المؤمنين كتب إلىّ أن لا أقاتلهم حتى أدعوهم ، فمن رجل يأتيهم بكتابه؟ ومعه فى عسكره ممن قدم من المدينة عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن عمر أو الزبير وابنه عبد الله ، فتواكل الناس ، فقام المغيرة بن شعبة يتذيل فى مشيته ، وكان آدم طويلا ذا ضفيرتين أعور ، فأخذ الكتاب فأتاهم ، فقال : القوا إلىّ شيئا ، فألقوا له ترسا فجلس عليه ، فقال الترجمان : ما أقدمكم؟ فذكر ما كانوا فيه من ضيق المعيشة ، وقال : كنا أهل جهد وجفاء بين شوك وحجر ، ومدر وحية وعقرب ، يغير بعضنا على بعض ، فأتينا بلادكم فأصبنا مطعما طيبا وشرابا عذبا ولبوسا لينا وطلا باردا ، فلسنا براجعين إلى ما كنا فيه حتى نصيب حاجتنا أو نموت.
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : صدق ، فقالوا : إنكم معشر العرب أرجاس أنجاس ، وإنما غركم مناخر نبذ جوى الأهواز ، وعوران المدائن الذين لقوكم ، وإنه ليس ممن ترى إلا فارسى محض أسوار ، ولو لا فساد الأرض لقتلناكم ، فما حاجتكم التي تريدون أن تصيبوها؟ فقرأ عليهم المغيرة كتاب عمر : إنا ندعوكم إلى ما دعاكم الله إليه ورسوله ، أن تدخلوا فى السلم كافة ، فإن فعلتم فأنتم إخواننا ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، فإن أبيتم الإسلام فالجزية ، فإن أبيتم الجزية استنصرنا الله عليكم.
قالوا : الآن حين نقرنكم فى الجبال ، فرجع المغيرة ، فقال للنعمان : حبست الناس حتى طمحت أبصارهم ، أما والله إن لو كنت صاحبها؟ قال : ربما كنت ، فلم يخزك الله ولم تخب. ونهض المسلمون للحرب ، فأقبل ذو الحاجب على برذون أمام العجم ، فقالوا : انزلوا بالطائر الصالح الذي نصرتم به على الأمم ، وتهزمون به العرب ، فبرز له رجل من المسلمين فقتله ذو الحاجب ، وتهايجوا واقتتلوا حتى كثرت بينهم القتلى والجرحى ، ثم تحاجزوا ، وغدا المشركون غداة الخميس من غد يجرون الحديد ويسحبون الدروع ، وغدا المسلمون على راياتهم فتقدم رجل من العجم قد أعلم بعصابة فيها جواهر أمام أصحابه ، فحمل عليه أوفى بن سبرة القشيرى فقتله وسلبه ، فنفله النعمان سلبه ، وحمل المشركون