ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣] إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة. فتكون آية (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) تمهيدا ومقدمة لقوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣] فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى. ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها.
وقدم ذكر (الزَّانِيَةُ) على (الزَّانِي) للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكينا ، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها. وقوله : (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر.
وتعريف (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا ومقام التشريع يقتضيه ، وشأن (أل) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه. وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد ، ف (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى.
والزنى : اسم مصدر زنى ، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر ، يقال : زنى الرجل وزنت المرأة ، ويقال : زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضا بوزن الفعال ويخفف همزه فيصير اسما مقصورا. وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض ، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي. وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) في سورة الإسراء [٣٢].
والجلد : الضرب بسير من جلد. مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد. أي البشرة. كما اشتق الجبه ، والبطن ، والرأس في قولهم جبهه إذا ضرب جبهته ، وبطنه إذا ضرب بطنه ، ورأسه إذا ضرب رأسه. قال في «الكشاف» : وفي لفظ الجلد إشارة إلى