وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمنا في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارها مصرّا على النفاق. ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت : من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا ، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمنا بعد الهجرة بنحو سنة.
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سرا لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علنا ، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه. واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيها بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.
ولا شك في أن الزنى كان محرما تحريما شديدا على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام. وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها. وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرما قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء ، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم.
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] توطئة لتحريم الخمر البتة. وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف ، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.