فلو أن قوما غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشئون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صورا تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسبابا وسننا تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سننا وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم ، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد. ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما ما رسوه من شئون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم. ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) وقد تقدم في سورة الإسراء [٤ ، ٥].
والاستخلاف : جعلهم خلفاء ، أي عن الله في تدبير شئون عباده كما قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقد تقدم في سورة البقرة [٣٠]. والسين والتاء للتأكيد. وأصله : ليخلفنهم في الأرض.
وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شئون الأمة منوطا بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعا بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع ، كما حكى تعالى قول موسى لبني إسرائيل : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) كما تقدم في سورة العقود [٢٠].
ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعها ، وأن الظرفية المدلولة بحرف (في) ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامها سكانه. والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١].
وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) دون تقييد بقوله : (فِي الْأَرْضِ) ل (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم