وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ...) الآيات إلى قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١١٤] كما ستعلمه.
وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.
ومعنى (يَجْأَرُونَ) يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجؤار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبرا عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.
وجملة (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون : ٦٨] وهي مقول قول محذوف ، أي تقول لهم : لا تجأروا اليوم.
وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذ لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه. وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هددوا به. وإذا كان المراد بالعذاب عذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.
والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية. وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور : ١٦].
وجملة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي المستعمل في التسوية ، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لجؤاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا ، فموقع (إن) إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.
وضمّن (تُنْصَرُونَ) معنى النجاة فعدي الفعل ب (من) ، أي لا تنجون من عذابنا. فثمّ مضاف محذوف بعد (من) ، وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال. وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.
وقوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف. وإنما لم تعطف الجملة على جملة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.