أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى ، سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة ، وما يلي ذلك ، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر ، لبلغنا منه ما يدلّنا على أصل المسألة ؛ إلا أن ذلك لم يكن ، فدل على أنه غير موجود عندهم ، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا نعم ، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب ، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه ، والاستنارة بنوره ، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا) (١).
ثم يشرع الشاطبي رحمة الله بذكر أدلة المجيزين لقضية الإعجاز ويردها ، فيقول : (وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) وقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٣) ونحو ذلك ، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب وبما نقل عن الناس فيها ، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد ، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) اللوح المحفوظ ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا ، كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب ، حسبما ذكره أصحاب السير ، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى ، وغير ذلك.
وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ، ولم يدّعه أحد ممن تقدم ، فلا دليل فيها على ما ادّعوا وما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت ، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه ، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة ، فبه يوصل إلى علم ما أودع من
__________________
(١) الموافقات في أصول الشريعة ، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الرابعة ، ١٤٢٠ ه / ١٩٩٩ ، ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.
(٢) سورة النحل ، الآية : ٩٨.
(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.