ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسّعوا في علوم القرآن ومعارفه ، فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون ، وهم في ذلك مخطئون ومسرفون ، وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلا ، ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ، ويحمل كتاب الله على ما ليس من وظيفته ... إن وظيفته في هداية العالم أسمى وظيفة في الوجود ، ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة ، وما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية؟ أليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم ويخترب وينتحر؟ ثم أليست العلوم الكونية هي التي ترمي الناس في هذه الأيام بالمنايا وتقذفهم بالحمم وتظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة من مدافع رشاشة ودبابات فتاكة وطائرات أزازة وقنابل مهلكة وغازات محرقة ومدمرات في البر والبحر وفي الهواء والماء؟ وما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى الله ووحي السماء بالأنياب والمخالب للوحوش الضارية والسباع الواغلة في أديم الغبراء.
ثانيها : أن القرآن دعا إلى هذه العلوم ما دعا إليه من البحث والنظر والانتفاع بما في الكون من نعم وعبر ، قال الله سبحانه وتعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، وقال جل شأنه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).
ثالثها : أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى ومقهورة لمراده ، ونفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة وهي مألوهة وزعموها ذات تأثير وسلطان بينما هي خاضعة لقدرة الله وسلطانه ...
رابعها : أن القرآن حين يعرض لآية كونية في معرضة من معارض الهداية ، يتحدّث عنها حديث المحيط بعلوم الكون ، الخبير بأسرار السموات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية في البر والبحر ولا في النجوم والكواكب ولا في السحاب والماء ولا في الإنسان والحيوان والنبات والجماد ، وذلك هو الذي بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية وأوقع من أوقع منهم في الإسراف ، واعتبار هذه العلوم من علوم القرآن.
خامسها : أن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية ، أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال في سمت واحد ، بحيث يمر النظم القرآني الكريم على
__________________
(١) سورة يونس ، الآية : ١٠١.
(٢) سورة الجاثية ، الآية : ١٣.