إذن ، يتضح من معطيات ما سبق أن (قَراراً) و (كِفاتاً) كلمتان تدلان على الضمّ والجمع وهذا هو المعنى العلمي الدقيق للجاذبية ، إذ الجاذبية من شأنها أن تضم وتجمع إليها ما أحاط بها من أجسام ...
فأيّ تعبير أدق من تعبير القرآن الكريم ، وهو يصف حال الكرة الأرضية وهي تسير في فلكها الذي رسم لها من قبل الخالق العظيم ، وفي آن واحد تضم المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى عليها ضمّا قد حشي بالرحمة والحنان والعطف ، وكأنها أمّ رءوم بأبنائها ، فلا تؤذيهم حال دورانها حول نفسها والشمس ، ولا تقذف بهم في دوّامة التيه والفوضى ، بل إنها تقلّهم بين حناياها وتكفتهم بذراعيها بعامل الجاذبية الذي أشار الله إليه بقوله : (قَراراً) و (كِفاتاً).
فما أرحمك يا خالقنا وما أعظم لطفك وحنانك بنا ، فالأرض تدور وتجري بسرعة كبيرة ونحن نعيش بين تضاعيفها وننعم بأرزاقها وظلالها الوارف ، ولا يصيبنا أيّ أذىً ولا نشعر بأيّ خوف أو قلق ، فسبحان الذي خلق كلّ شيء بقدر ، ثم إن قوة الجاذبية لا تقتصر على كوكب الأرض وما حوى ، بل إنها تلف الأجرام وحتى المجرات السماوية بأسرها ، ذلك أن الجزر النجمية الضخمة العظيمة في الكون ، مهما كانت متباعدة إلا أنها متماسكة فيما بينها بسبب قوة الجاذبية التي تربط أجرامها ببعض ، وتمنعها من التفكك والتناثر ، كما مرّ فيما مضى ، وكيف أن قوة الجاذبية على عظمها لا يمكن أن ترى أبدا ، ولقد أشار ربنا سبحانه وتعالى إلى الجاذبية الكونية ، وأن السماء مبنية بناء دقيقا ومتماسكا على أعمدة غير مرئية ، ولنتأمل في هذا قول الله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١) ، كما أن الحق عزوجل أمرنا أن نجيل النظر في السماء ، لنرى كيف بنيت وكيف رفعت ، وفي هذا يقول ربنا جل جلاله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٢) وقوله سبحانه : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (٣) ، وقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤).
__________________
(١) سورة لقمان ، الآية : ١٠.
(٢) سورة ق ، الآية : ٦.
(٣) سورة الغاشية ، الآية : ١٨.
(٤) سورة الحج ، الآية : ٦٥.