أما عن الآيتين الأولى والثانية ، فهما تخبرانا أن للشمس صفتين (سِراجاً) ، و (ضِياءً) ، وقد حللنا هاتين الصفتين عند حديثنا عن الشمس ، وعرفنا أن الشمس نجم ينتج بتفاعلاته النووية واحتراقه الداخلي حرارة قوية شديدة وضوءا ، وتلك هي صفة السراج ، فالضوء الذي تصدره الشمس يكون مشحونا بالحرارة على خلاف صفة الإنارة ، فالنور من صفات القمر ، والإنارة هي ما يستنير به المكان بدون حرارة ، إذا فالقمر ليس مضيئا بذاته ، ولكنه يعكس الضوء الذي يستقبله من الشمس.
وهذا المعنى أكده العلماء والمفسرون ، يقول الإمام ابن كثير رحمهالله : (يخبر الله تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل) (١).
أما الإمام الرازي فيقول : (النور اسم لأصل هذه الكيفية ، وأما الضوء فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية ، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس (ضِياءً) والكيفية القائمة بالقمر (نُوراً) ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر) (٢).
وأما الآية الثالثة فهي تخبرنا أن الله سبحانه وتعالى قد محا آية الليل ، التي هي القمر بعد أن كانت ملتهبة ، محاها وطمسها ، وترك آية النهار مبصرة مضيئة التي هي الشمس.
يقول الفخر الرازي : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أن يكون المراد وجعلنا نيّري الليل والنهار آيتين ، يريد الشمس والقمر ، (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وهي القمر والمراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه ... ومعنى المحو في اللغة إذهاب الأثر ، تقول : محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره ... (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ومعنى كونها مبصرة ، أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار ، فأطلق سبحانه اسم الإبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم السبب على المسبب) (٣).
__________________
(١) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٣ / ١٨١.
(٢) التفسير الكبير ، للفخر الرازي ، ٩ / ٣٥ ، وانظر : حاشية الشهاب على البيضاوي ، لشهاب الدين أحمد بن عمر الخفاجي ، تحقيق ، عبد الرزاق المهدي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٣١٧ ه / ١٩٩٧ ، ٩ / ١٨٤.
(٣) التفسير الكبير ، للفخر الرازي ، ١٠ / ١٦٥ ، وانظر : الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ٥ / ١٤٩.