وتنازل معهم في المحاورة إلى مجال يتوهمون إحراز قصب السبق فيه ولم يطالبهم بشيء من حقائق الكون والتاريخ ، ومن قصص الأنبياء الغابرين وشأن الألوهية وكمالاتها وأمهات الأخلاق ومقومات الحضارات ورقيّ المجتمعات ، وإنما عليهم أن يأتوا بمثل عشر سور من سور القرآن ، وليفتروا موضوعاتها كما يشاءون على أن تكون في فصاحة القرآن وبلاغته) (١).
ونجد تعليقا جميلا على هذه الآية في تفسير «إرشاد العقل السليم» (أي ، بل يقولون افتراه وليس من عند الله (قُلْ) إن كان الأمر كما تقولون (فَأْتُوا) أنتم أيضا (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في البلاغة وحسن النظم ... (مُفْتَرَياتٍ) صفة أخرى لسور أخرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفة المقصودة بالتكليف إذ بها يظهر عجزهم وقعودهم عن المعارضة ، وأما وصف الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ، ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة في الافتراء ، والمعنى : فأتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة ، مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اخلقته من عندي ، فإنكم أقدر على ذلك مني لأنكم عرب فصحاء بلغاء قد مارستم مبادي ذلك من الخطب والأشعار وحفظتم الوقائع والأيام وزاولتم أساليب النظم والنثر) (٢).
ولقد هشمت هذه الآية كبرياء المشركين ، وفضحت عجزهم ، وأردتهم في مهاوي الذل والخذلان فما استطاع أحد أن يتفوه ببنت شفه ، ولقد استعجمت ألسنتهم عن النطق بمثل هذا الكلام البديع وذلكم النظم المتألق الفريد ...
(أما زلتم تقيمون على الزعم بأن محمدا افترى هذا القرآن على الله ...؟ أم أنكم لم تبرحوا تتقوّلون أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها محمد فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ، لئن دار بعض هذا في خلدكم فخلوا عنكم أخباره الغيبية وعلومه اللدنية ، فلن يكون أسهل عليكم حسب زعمكم من اختلاق عشر سور تماثله بلاغة أسلوب وفصاحة بيان ، فأنتم العرب سادة الفصاحة والبلاغة؟ وقد دعيتم إلى مثله في النظم في أي معنى أردتم مطلقا غير مقيد ، موسعا غير مضيق ، فليس إلى معاني القرآن دعيتم ، ولكن إلى بلاغة أسلوبه وفصاحة عباراته ... أما وقد عجزتم ، وباء جمعكم بالخزي والخذلان
__________________
(١) مباحث في إعجاز القرآن الكريم ، مصطفى مسلم ، ص : ٢٣.
(٢) إرشاد العقل السليم ، محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود ، ٤ / ١٩٢.