وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم ، وأنهم لا يقدرون عليه ، وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ لأن ذلك طبعهم ولغتهم ، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن ، وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة) (١).
ويؤكد هذا المعنى الجرجاني فيقول : (وإذا ثبت أنهم ـ أي العرب ـ الأصل والقدوة فإن علمهم العلم ، فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلي عليهم القرآن وتحدوا إليه ، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله ، ومن التقريع بالعجز عنه ، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه ، وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكّوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله ، ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلا على وجه من الوجوه ، أما الأحوال فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطباعهم التي لا تتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلا إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم ، كيف وأن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه يبأى (٢) بنفسه ، ويدل بشعر يقوله ، أو خطبة يقوم بها ، أو رسالة يعملها ، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته ، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل ، ويبذل ما لديه من المنة ، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه وأن يعرض كلامه عليه ببعض العلل ، وبنوع من التمحل (٣) ، هذا وهو لم ير ذلك الإنسان قط ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة ، ويدعو إلى ذلك التعرض ، وإن كان المدعى ذلك بمرأى منه ومسمع ، كان ذلك أدعى له إلى مباراته وإلى إظهار ما عنده) (٤).
(... فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب ، وفي مثل قريش ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية والأنفة والحمية ، من يدعي النبوة ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى
__________________
(١) إعجاز القرآن ، للباقلاني ، ص : ٢٨٩.
(٢) (بأى : البأواء ، هي العظمة ، ويبأى : فخر ، وبأيت عليهم أبأى ، فخرت عليهم). لسان العرب ، لابن منظور ، ١٤ / ٦٣.
(٣) (التمحل : المكر والاحتيال). لسان العرب ، لابن منظور ، ٢ / ١٨٨.
(٤) ثلاث رسائل في الإعجاز ، الرسالة الشافية ، للجرجاني ، تحقيق ، محمد خلف الله ومحمد سلام ، القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ١٣٨٧ ه / ١٩٦٨ ، ص : ١١٨ ـ ١١٩.