قلوبهم ، وثارت عواطفهم ، وتفاعلت أحاسيسهم بصدى القرآن ووقعه على مسامعهم فإنهم قد استيقنوا أن هذا الكلام هو كلام الله ، ولا يمكن أن يكون من تأليف إنس أو جن ، لأن الفرق بين كلام البشر وكلام الله كالفرق بيننا وبين الله ، بل إن المشركين كانوا يتوقون في كل لحظة لسماع كلام الحق وتضيق عليهم الأرض بما رحبت إن هم انقطعوا عن الاستماع للقرآن.
(ولذلك كان النفر من قريش يتعاهدون على عدم سماع القرآن حتى لا يتأثروا به ، ويذهبون إلى بيوتهم ، إلا أن الواحد منهم لا يلبث أن يرجع إلى الكعبة ليسمع القرآن ، الذي ملك عليه عقله وقلبه فيجد أن صاحبه الذي كان قد عاهده ، قد سبقه إلى العودة لسماع القرآن المعجز ، نديا من صوت محمد صلىاللهعليهوسلم فيجتمعان أمام الكعبة وكل منهم قد نقض ما عاهد عليه صاحبه! وحق لهم هذا ... فمن ذا الذي يرى المعجزة ويملك نفسه أن لا يتأثر بها ...؟ إذ لو كان الناس يملكون هذا ، لما كان للمعجزة ذلك الأثر) (١).
وهذا ما أورده أصحاب السير في سيرهم ، من أن المشركين كانوا يتلصصون في هدأة الليل ، أو هاجرة النهار ، ليستمتعوا وينتشوا بسماع كلام الحيّ القيوم ، فقد روى ابن هشام في سيرته : (قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا ، فأراد الأخنس أن يستفهم عما سمعه فلما أصبح الأخنس بن شريق ، أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما
__________________
(١) المعجزة القرآنية ، محمد حسن هيتو ، ص : ٣٩.