تواترت به الأنباء من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ، ونالت منالها من عزائمهم ، فهبوا هبّة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ، ولم يدعوا بابا إلا دخلوه ، لقد آذوه وآذوا أصحابه فسبوا من سبوا ، وعذّبوا من عذبوا ، وقتلوا من قتلوا ، ولقد طلبوا إلى عمه أبي طالب أن يكفه وإلا نازلوه وإياه ، ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة ، لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ، ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون ، واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة ، وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية ، منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا ، وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه ، وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا ، وأن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن ، كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به ، ولما أبى عليهم ذلك ، عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة ، فأبى أيضا ، ونزل قول الله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (١) ونزلت كذلك سورة الكافرون ، ولقد اتهموه مرة بالسحر وأخرى بالشعر وثالثه بالجنون ورابعة بالكهانة ، وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم ، فيبهتونه ويكذّبونه أمام من لا يعرفونه ، ولقد شدّوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم ، ولقد تآمروا على الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه لو لا أن حفظه الله وحماه من مكرهم ، وأمره بالهجرة من بينهم ، ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره ، فنشبت الحرب بينه وبينهم في خمس وسبعين موقعة ، منها سبع وعشرون غزوة ، وثمان وأربعون سرية ، فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ونبي القرآن ، وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل زاهدين في النزول إلى هذا الميدان ، وهل يصح مع هذا كله أن يقال : إنهم كانوا في تشاغل عن القرآن غير معنيين به ولا آبهين له ، وإذا كان أمر القرآن لم يحركهم ولم يسترع انتباههم فلما ذا كانت جميع هذه المهاترات والمصاولات مع أن خصمهم الذي يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة ، ودلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به ، أليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية : ٦١.