القيام بالأمور على ما ينبغي تحصيلا لسعادة الدارين ، وقد تطابقت الملة والفلسفة على الاعتناء بتكميل النفوس البشرية في القوتين وتسهيل طريق الوصول إلى الغايتين ، إلا أن نظر العقل يتبع في الملة هداه وفي الفلسفة هواه ، وكما دونت حكماء الفلاسفة الحكمة النظرية والعلمية إعانة للعامة على تحصيل الكمالات المتعلقة بالقوتين دونت عظماء الملة وعلماء الأمة علم الكلام ، وعلم الشرائع والأحكام ، فوقع الكلام للملة (١) بإزاء الحكمة النظرية للفلسفة وهي عندهم تنقسم إلى العلم المتعلق (٢) بأمور تستغني عن المادة في الورود والتصور جميعا ، وهو الإلهي أو في التصور فقط وهو الرياضي ، أو لا تستغني أصلا وهي الطبيعي ولكل منها أقسام وفروع كثيرة ، إلا أن المقدم في الاعتبار بشهادة العقل والنقل هو معرفة المبدأ والمعاد المشار إليهما بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ، وطريق الوصول إليها هو النظر في الممكنات (٣) من الجواهر والأعراض على ما يرشد إليه (٤) مواضع من كتاب الله تعالى وما أحسن ما أشار أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إلى أن المعتبر من كمال القوة العملية ما به نظام المعاش ، ونجاة المعاد. ومن النظرية العلم بالمبدإ والمعاد وما بينهما من جهة النظر والاعتبار حيث قال :
«رحم الله امرأ أخذ لنفسه ، واستعد لرمسه ، وعلم من أين وفي أين وإلى أين؟»
__________________
(١) الملة كالدين : وهي ما شرع الله للعباد على لسان المرسلين ليتوصلوا به إلى جوار الله ، والفرق بينها وبين الدين ، أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم الذي تستند إليه ، نحو (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ولا تكاد توجد مضافة إلى لفظ الله تعالى ، ولا إلى آحاد أمة النبي صلىاللهعليهوسلم ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ، لا يقال ملة الله ولا ملتي ولا ملة زيد ، كما يقال دين الله وديني ، ودين زيد ، ولا يقال للصلاة ملة الله. كما يقال دين الله.
(٢) سقط من (أ) كلمة (بأمور).
(٣) يطلق النظر على معان ، فيراد به الرؤية والإحسان والرحمة ، ونظر القلب ، وهو المقصود هنا لأنه يقوم على التفكير الذي يكشف عن الحقيقة وقد دعا الله إليه (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). وهو واجب عند المسلمين جميعا ويعول عليه المعتزلة كل التعويل ، لأن العقل قبل السمع. وكان الناس قبل ورود الشرائع يحتكمون إلى عقولهم فيحسنون ويقبحون ، وما دام النظر واجبا فالتقليد فاسد ، ويؤدي إلى جحد الضرورة.
(راجع المغني للقاضي عبد الجبار ص د ، ه والمقدمة ج ١٢).
(٤) في (ب) على ما يرشد مواضع إليه.