بغير قدرة العبد واختياره ، حتى لو كان التذكر بقصد العبد لكان مولدا ، فيصير الحاصل أن هذا قياس مركب ، وهو أن يكون حكم الأصل متفقا عليه بين المستدل والخصم ، لكن يعلل عند كل منهما بعلة أخرى ، والخصم بين منع وجود الجامع بين الأصل والفرع ، إذ ابتداء النظر لا يشارك تذكره في عدم المقدورية وبين منع وجود الحكم في الأصل ؛ أي لا نسلم أن التذكر لا يولد العلم عند كونه بقدرة العبد ، وإنما ذلك عند كونه سانحا للذهن من غير قصد(١) العبد فإنه يكون فعل الله تعالى. فلو قلنا : ـ يتولد العلم عنه لكان أيضا فعل الله تعالى ، فلا يصح تكليف العبد به ، وفي نهاية العقول (٢) ما يشعر بأن علة عدم التوليد في التذكر هو لزوم اجتماع الموجبين على أثر واحد ، لأنه قال : التذكر عبارة عن وجود علمين أحدهما العلم بالمقدمات التي سبقت ، والآخر العلم بأنه كان قد أتى بتلك العلوم ، ثم ليس أحد العلمين أولى بالتوليد من الآخر ، فيلزم أن يكون كل منهما مولدا للعلم بالنتيجة ، وهو محال.
ويجوز أن يكون العلة هو لزوم حصول الحاصل (٣) إذ التذكير إنما يكون بعد النظر ، وقد حصل به العلم ، وعلى هذا لا يكون التذكر مفيدا للعلم أصلا ، وعند الفلاسفة هي بطريق الوجوب ، لتمام القابل مع دوام الفاعل ، وذلك أن النظر يعد الذهن لفيضان العلم عليه من عند واهب الصور ، الذي (٤) هو عندهم العقل الفعال (٥) المنتقش بصور الكائنات ، المفيض على أنفسنا (٦)
__________________
(١) القصد : إتيان الشيء وبابه ضرب. وقصد قصدا أي نحا نحوه ، والقاصد القريب. يقال : بيننا وبين الماء ليلة (قاصدة) أي هينة السير ، لا تعب فيها ولا بطء. والقصد : بين الاسراف والتقتير. والقصد : العدل.
(٢) كتاب نهاية العقول في الكلام في دراية الأصول : يعني أصول الدين للإمام فخر الدين بن محمد الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ ه. رتّبه على عشرين أصلا وأول الكتاب : أما بعد حمدا لله على تسابق آلائه وتلاحق نعمائه.
(٣) في (ب) إن بدلا من (إذ).
(٤) في (ب) بزيادة (يسمى).
(٥) العقل الفعال عند الفلاسفة : هو الذي تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد ، فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة. أما في عالم الكون والفساد فهي لا توجد إلا من جهة الانفعال. وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدس ، وهذا كله يذكرنا بقول أرسطو : إن العقل الفاعل : هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية على حين أن العقل المنفعل هو الذي تنطبع فيه هذه الصور.
(٦) في (ب) على نفوسنا.