إلى تراث الأمم السابقة كدولة الفرس واليونان ، وعكوفهم على ترجمة هذه الكتب عامل جوهري أيضا في تعريف المسلمين على علم الكلام ، وحذقهم لأدواته بل يبالغ البعض فيرى أن هذا العلم نبتت جذوره في دولة اليونان ، وغذيت فروعه في مدارسه المختلفة ، من أبيقورية ، ورواقية ، وسفسطائية ، ثم زحف على الأمة الإسلامية فيما زحف ، فكان والحق يقال : لفكرها مشتتا ، ولرأيها مفرقا ، ولوحدتها ممزقا وبقي إلى يومنا هذا علما يعرف به من يشتغلون في البحث عن العقائد والملل المختلفة ، وممن تستهويهم حقائق الوجود ، ومغلقات الكون وغير ذلك من الأبحاث الفلسفية. أضف إلى ذلك أيضا ، تسرب الأفكار اليهودية والمسيحية إلى بعض مفكري المسلمين ، عن طريق الحوار والاحتكاك ، ومن هذه الأفكار ما رددته الجهمية : أن الإنسان مجبور تماما على فعل أفعاله ، وهي تنسب إليه كما تنسب الأفعال إلى الجمادات.
وما رددته المعتزلة : أن الإنسان يفعل الأفعال باختياره ، ويخلقها بقدرته. وهذان المذهبان في نفي القدر وإثباته ، هما مذهب الأبيقوريين القائلين بحرية الإرادة ، ومذهب الرواقيين القائلين بأن الإنسان مسير لا مخير.
ثم مذهبان مماثلان لليهود : فمنهم الربانيون ينفون القدر ، والقراءون يقولون بالجبر.
ثم مذهبان تاليان مسيحيان ، فالمسيحيون الشرقيون يقولون : إن الإنسان مخير ، والآخرون يقولون بالجبر (١).
لقد نادى جهم بن صفوان بخلق القرآن ، ورددت مدرسة الاعتزال ما قاله جهم ، واستعانت بنفوذ السلطة الحاكمة لإجبار المسلمين على ذلك ، ولم يكن ذلك إلا ترديد للأفكار اليهودية المنحرفة.
والمؤرخون يروون في صدد فكرة خلق القرآن سلسلة يصل سندها إلى لبيد بن أعصم اليهودي القائل بخلق التوراة.
__________________
(١) راجع في ذلك كتاب أحمد بن حنبل للأستاذ عبد الحليم الجندي ص ٤٠٥ وما بعدها.