لقد خفيت على الملائكة حكمة الله سبحانه وتعالى في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنوعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق ، وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها على يد خليفة الله في أرضه هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل ، خير النمو الدائم ، والرقي الدائم خير الحركة الهادمة البانية ، خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور.
قال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).
وأيضا الجدل الذي تم بين أبناء آدم.
قال تعالى :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١).
لقد حكم أحدهما رغباته وشهواته ، والرغبة تعمي وتصم. وكما قال (اسبينوزا) : «إن الرغبة هي التي ترينا الأشياء مليحة لا بصيرتنا».
والحقيقة أن القارئ لتاريخ البشرية يرى أن هذه الرغبة لم يخل منها عصر من العصور ، ولا جيل من الأجيال.
فلما كانت دولة اليونان القديمة ظهر فيها علم المنطق والجدل فوضعوا لهما الأصول وقعدوا لهما القواعد. وكان العقلاء منهم ينظرون إلى الجدل نظرة اشتباه وإنكار وهو الذي سموه ـ بعد ـ بالسفسطة أو ترفّقوا فسموه علم البراهين الخطابية ، وحسبوه صناعة لازمة في معرض الإقناع والتأثير.
__________________
(١) سورة المائدة آية رقم ٢٧ ـ ٢٨.