وكان الجدل في نشأته الأولى في دولة اليونان كعلم له قواعد وأصول. معظما مبجّلا بين الحكماء وتلاميذهم ، وجمهرة المعنيين بالحكمة والمعرفة ، وكان اسم «السوفيست» أعظم شأنا من اسم الفيلسوف ، لأن السوفيست ينتمي إلى ربّة الحكمة «صوفية» فهو الحكيم الذي ألهمته تلك الربة وفرغ من مئونة المعرفة.
فلما ظهر الحكيم (فيثاغورس) (١) استكبر هذه الدعوى وتواضع فسمى نفسه فيلسوفا أي محبا للحكمة.
وتصدى لتعليم الجدل أو البراهين الخطابية أناس يقصدهم المتعلمون ليعرفوا كيف ينتصرون على خصومهم في مجال المنازعة والملاحة ، ويضع الآباء أبناءهم في كفالتهم ليدربوهم على صناعة الجدل ، والتأثير في سبيل الإقناع بالحجة أيا كان حظها من الحقيقة.
ومما يحكى عن أستاذ جدلي أنه اتفق مع تلميذ له على أن يخرجه للدفاع في القضاء والمنازعات العامة خلال سنتين بأجر متفق عليه.
فلما انتهت السنتان طلب الأستاذ أجره.
فقال التلميذ : بل أناقشك في هذا الأجر هل تستحقه بعملك أو تطلبه بغير حق ..؟ فإن أقنعتك بأنك لا تستحقه فلا حق لك فيه باعترافك ، وسكوتك حجة على هذا الاعتراف.
وإن لم أقنعك فلا حق لك فيه ، لأنك لم تعلمني كيف أقيم البرهان على دعواي.؟؟
وكان جواب الأستاذ كمثال تلميذه ، مثلا للبرهان المطلوب في هذه الصناعة فقال له: إنني أقبل أن أناقشك ولكن على غير النتيجة التي خلصت إليها.
__________________
(١) ولد بجزيرة (ساموس) من أعمال آسيا الصغرى ثم ارتحل إلى بلاد الشرق في طلب العلم وأخيرا استقر به المقام في جنوب إيطاليا ، حيث أنشأ هذه المدرسة وأخذ هو وتلاميذه يصيغون العلوم الرياضية.