أناقشك حقي فتعطيه مرة إذا ثبت عليك. وتعطيه مرتين إذا لم أثبته أمامك ، لأنني علمت تلميذا ما يغلب به أستاذه في صناعة البرهان.
وبلغ من التفاهم على الفصل بين البرهان والحقيقة في صناعة الجدل أنهم أصبحوا يقولون عن الحجة أنها حجة خطابية ، أي تقع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة.
وإذا تركنا المدارس اليونانية وما كان فيها من جدل عقيم ، وسفسطات تدع الحليم حيران ، وتصيب الرءوس بالدوار وانتقلنا إلى مسرح الجزيرة العربية في الجاهلية فإننا نرى حشدا هائلا من الديانات والنحل ، مثل اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، والزرادشتية ، والمانوية ، والمزدكية ، والصابئة وأصحاب الروحانيات ، وأصحاب الأشخاص. كلها تدعي الحق وتدمغ الآخرين بالباطل ، وتستعمل أسلحة الجدل ومنطق العقل ، ومغالطة الفكر في إثبات حقها ، وإبطال زيف ما عداها (١).
من ذلك ما يحكيه ابن هشام في السيرة النبوية عن سلمة بن سلامة من أهل بدر قال:
«كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا عليّ بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي.
فذكر القيامة والبعث ، والحساب والميزان ، والجنة والنار ، قال ذلك لقوم أهل شرك ، أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت.
فقالوا له : ويحك يا فلان ، أو ترى هذا كائنا ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يجزون فيها بأعمالهم ..؟
قال : نعم.
__________________
(١) راجع التفكير فريضة إسلامية ـ للأستاذ العقاد.