ودخل بغداد فصحب الشّيخ حمّاد الدّبّاس ، وشرع في دعاء الخلق إلى الله تعالى ، فأقبل عليه النّاس إقبالا كثيرا ، وصار له قبول عظيم. وتبعه جماعة ، وصلح بسببه أمّة صاروا سرجا في البلاد وأئمّة هدى. وبنى مدرسة ورباطين ، ودرّس وأفتى ، وولّي تدريس النّظاميّة وحدّث. ولم أر له أصلا يعتمد عليه بسماعه «غريب الحديث» (١).
وقال ابن النّجّار : أنبأنا يحيى بن القاسم التّكريتيّ : نا أبو النّجيب قال : كنت أدخل على الشّيخ حمّاد ـ ويكون قد اعتراني بعض الفتور عمّا كنت عليه من المجاهدة ـ فيقول : أراك قد دخلت عليّ وعليك ظلمة ، فأعلم بسبب ذلك كرامة الشّيخ فيه. وكنت أبقى اليومين والثّلاثة لا أستطعم بزاد ، وكنت أنزل إلى دجلة فأتقلّب في الماء ليسكن جوعي ، حتّى دعتني الحاجة إلى أن اتّخذت قربة وأستقي بها الماء لأقوام ، فمن أعطاني شيئا أخذته ، ومن لم يعطني لم أطالبه. ولما تعذّر ذلك في الشّتاء عليّ خرجت يوما إلى بعض الأسواق ، فوجدت رجلا بين يديه طبرزد ، وعنده جماعة يدقّون الأرزّ ، فقلت : هل لك أن تستأجرني؟ فقال : أرني يديك. فأريته فقال : هذه يد لا تصلح إلّا للقلم. ثمّ ناولني قرطاسا فيه ذهب ، فقلت : ما آخذ إلّا أجرة عملي ، فإن كان عندك نسخا تستأجرني في النّسخ وإلّا انصرفت.
وكان رجلا يقظا ، فقال : اصعد. وقال لغلامه : ناوله تلك المدقّة. فناولني ، فدققت معهم وليس لي عادة ، وصاحب الدّكّان يلحظني. فلمّا عملت ساعة قال : تعال. فجئت إليه فناولني الذّهب وقال : هذا أجرتك. فأخذته وانصرفت. ثمّ أوقع الله في قلبي الاشتغال بالعلم ، فاشتغلت حتّى أتقنت المذهب ، وقرأت أصول الدّين وأصول الفقه ، وحفظت كتاب «الوسيط» في التّفسير للواحديّ. وسمعت كتب الحديث المشهورة (٢).
وقال ابن عساكر في «تاريخه» (٣) : ذكر أبو النّجيب لي أنّه سمع بأصبهان
__________________
(١) وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٤.
(٢) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٧ / ١٧٥.
(٣) تاريخ دمشق ٢٤ / ٣٤٨.