ثانيهما : ان الأحكام المجعولة سواء كانت في هذه الشريعة أو الشرائع السابقة ليست مجعولة بنحو القضايا الخارجية ، وانما هي مجعولة بنحو القضايا الحقيقية ، فتعم جميع الناس في جميع الأزمان ما لم ينسخ ، غايته فعليتها بفعلية الموضوع ، والشك فيها ليس إلّا من جهة النسخ ، فالمتيقن ثبوت الحكم بنحو القضية الحقيقية والمشكوك فيه نسخه ، فمورد اليقين والشك قضية واحدة ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ حتى في الحكم الثابت في الشريعة السابقة ، لأنه أيضا مجعول بنحو القضية الحقيقية ، فيعمنا مع قطع النّظر عن النسخ ، فكنا مشمولين له قطعا لو فرض تأخر بعثة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهذا الوجه قد ارتضاه جملة من المتأخرين ، وعليه بنوا جريان استصحاب عدم النسخ.
ولكن نحن في الدورة السابقة ناقشنا فيه بما حاصله : ان الحكم من الأمور الاعتبارية ، والاعتبار كالتصور مما لا بقاء له بل ينعدم بالغفلة ونحوها ، فما له بقاء اعتباري ممكن أن يشك فيه هو المعتبر ، وهو بالقياس إلى افراد المكلف لا بد وان يكون مطلقا أو مقيدا بعد استحالة الإهمال في مقام الثبوت. وقد ذكرنا انّ النسخ من الشارع دفع لا رفع حقيقة ، لأنه كاشف عن مقدار سعة الجعل وضيقه من الأول. وعليه فإذا ثبت إطلاق الحكم الثابت في هذه الشريعة أو الشرائع السابقة فنفس ما دل على إطلاقه كاف في دفع احتمال النسخ ، سواء كان دليلا خارجيا كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة) (١) وان ناقش فيه الشيخ ، أو كان إطلاق دليل نفس ذلك الحكم كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٢) ولا معنى حينئذ لاحتمال النسخ ، لأنه دفع لا رفع ، وإلّا لزم البداء
__________________
(١) الكافي : ١ ـ ٥٨.
(٢) آل عمران : ٩٧.