إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١))
(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) في القيامة الكبرى بالفناء المطلق والشهود الذاتي. الصدق أصل كل فضيلة ، وملاك كل كمال ، وخميرة كل مقام ، واستعداد كل موهبة (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) مما سوى الله من الأكوان التي تطلبها وتنسب التأثير إليها (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في الحقيقة لعدم تأثيره. (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) أي : التوحيد الذاتي (سَلامٌ عَلَيْكَ) أي : جرّد الله ذاتك عن المواد التي احتجبت بها (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) سأطلب منه ستر ذاتك بنوره ومحو غشاوات صفاتك بصفاته ودناءة هيئات نفسك بأفعاله إن أمكن (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) بالكسر ، أي : مجرّدا ذاته وعلمه في السلوك لوجه الله لم يلتفت إلى ما سواه من وجهة حتى صفاته تعالى ، بل نفاها عن ذاته ، وهو ما زاغ البصر وما طغى بقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١). ومخلصا بالفتح ، أي : أخلصه الله عن أنانيته وأفنى البقية منه فخلص من الطغيان المذكور بالتجلي الذاتي التام ، واستقام بتمكين الله إياه كما قال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) من ذنب ظهور الأنانية (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) مقام الرسالة دون مقام النبوّة لكونها مبينة للأحكام كالحلال والحرام ، منبهة على الأوضاع كالصلاة والصيام فهي متعلقة ببيان أحكام المكلفين. وأما النبوّة فهي عبارة عن الإنباء عن المعاني الغيبية كأحوال المعاد والبعث والنشور والمعارف الإلهية كتعريف الصفات والأسماء وما يليق بالله من التحميدات والتمجيدات والولاية فوقهما جميعا لكونها عبارة عن الفناء في ذات الله من غير اعتبار الخلق فهي أشرف المقامات لكونها تتقدم عليهما لأنها ما لم تحصل أولا لم تمكن النبوّة ولا الرسالة لكونها مقوّمة إياهما ولهذا قدم كونه مخلصا في القرآن بالفتح ، وأخرت النبوة عن الرسالة لكونها أشرف وأدل على المدح والتعظيم منها ولم يؤخر الولاية عنهما باعتبار الشرف لأنها وإن كانت أشرف لكنها باطنة لا يعرف شرفها وفضلها إلا الأفراد من العرفاء المحققين المخصوصين بدقة النظر دون غيرهم فلا يفيد المدح والتعظيم ولا الاقتصار عليها بقوله مخلصا وإن كانت أشرف لأنها قد توجد
__________________
(١ ـ ٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.