واستنصره على الهوى (فَوَكَزَهُ) ضربه بهيئة من هيئات الحكمة العملية بقوة من التأييدات ملكية بيد العاقلة العملية فقتله (قالَ هذا) الاستيلاء والاقتتال (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) الباعث للهوى على التعدّي والعدوان (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أو هذا القتل من عمل الشيطان ، لأن علاج الاستيلاء بالإفراط لا يكون بالفضيلة التي هي العدالة الفائضة من الرحمن بل إنما يكون بالرذيلة التي يقابلها من جانب التفريط كعلاج الشره بالخمود وعلاج البخل بالتبذير والإسراف بالتقتير وكلاهما من الشيطان (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالإفراط والتفريط (فَاغْفِرْ لِي) استر لي رذيلة ظلمي بنور عدلك (فَغَفَرَ لَهُ) صفات نفسه المائلة إلى الإفراط والتفريط بنوره ، فحصلت له العدالة (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) الساتر هيئات النفس بنوره (الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمال عند زكاء النفس عن الرذائل.
[١٧ ـ ١٩] (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))
(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي : اعصمني بما أنعمت عليّ من العلم والعمل (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) معاونا (لِلْمُجْرِمِينَ) المرتكبين الرذائل من القوى النفسانية (فَأَصْبَحَ) في مدينة البدن (خائِفاً) من استيلاء القوى النفسانية بإشارة الدواعي والهواجس وإلقاء أحاديث النفس والوساوس في مقام المراقبة (يَسْتَصْرِخُهُ) أي : يستنصره العقل على أخرى من قوى النفس وهي الوهم والتخيل لأنهما يفسدان في مقام الترقب ، ويثيران الوساوس والهواجس ويبعثان النوازع والدواعي ولا ينكسران ولا يفتران في حال ما من أحوال وجود القلب إلا عند الفناء في الله ، ألا ترى إلى معارضته ومماراته له في قوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) وإنما نسب صاحبه الذي هو العقل بقوله : إنك لغويّ ، لافتتانه بالوهم وعجزه عن دفعه واحتياجه في معارضته إلى القلب ، وإنما أراد أن يبطش ولما تيسر له البطش ، ومانعه وأنكر فعله ، بقوله : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ، لأن القلب ما لم يصل إلى مقام الروح ولم يفن في مقام الولاية ، ولم يتصف بالصفات الإلهية لم يذعن له شيطان الوهم لأنه من المنظرين إلى يوم القيامة الكبرى ، فما دام القلب في مقام الفتوّة متصفا بكمالاته في القيامة الوسطى يطمع هو في إغوائه ولا ينقهر ولا يمتنع بمجرّد الكمال العلمي والعملي عن استعلائه.
[٢٠ ـ ٢١] (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))