وراء أطوارهم إلا برابطة اتصال الطبيعة البدنية المتصلة به ، المقهورة بالقوى الطبيعية لضعفها بالرياضة وانقطاع مدد القلب عنها حينئذ أي : لا يطلعون إلا على حال الدابة التي تأكل المنسأة بالاستيلاء عليها لأن النفس الحيوانية عند عروج القلب ضعفت وسقطت قواها ولم يبق منها إلا القوى الطبيعية الحاكمة عليها (فَلَمَّا خَرَّ) من صعقته الموسوية وذهل في الحضور والاشتغال بالحضرة الإلهية عن استعمالها في الأعمال وإعمالها بالرياضات (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) غيب مقام السرّ بالاطلاع على المكاشفات لو كانوا مجرّدين (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) من الرياضة الشاقة التي تمنعهم الحظوظ والمرادات ومقتضيات الطباع والأهواء بالمخالفات والإجبار على الأعمال المتعبة في السلوك والاقتصار بها على الحقوق.
[١٥] (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥))
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) أهل مدينة البدن (فِي مَسْكَنِهِمْ) في مقارّهم ومحالهم (آيَةٌ) دالة لهم على صفات الله وأفعاله (جَنَّتانِ) جنة الصفات والمشاهدات عن يمينهم من جهة القلب والبرزخ التي هي أقوى الجهتين وأشرفهما ، وجنّة الآثار والأفعال عن شمالهم من جهة الصدر والنفس التي هي أضعف الجهتين وأخسّهما (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) من الجهتين كقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) باستعمال نعم ثمراتها في الطاعات والسلوك فيه بالقربات (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) باعتدال المزاج والصحة (وَرَبٌّ غَفُورٌ) يستر هيئات الرذائل وظلمات النفوس والطباع بنور صفاته وأفعاله ، فلكم التمكين من جهة الاستعداد والأسباب والآلات والتوفيق بالإمداد وإفاضات الأنوار.
[١٦ ـ ١٨] (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨))
(فَأَعْرَضُوا) عن القيام بالشكر والتوسل بها إلى الله بل عن الأكل من ثمراتها التي هي العلوم النافعة والحقيقية بالانهماك في اللذات والشهوات والانغماس في ظلمات الطبائع والهيئات.
(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ) الطبيعة الهيولانية بنقب جرذان سيول الطبائع العنصرية سكر المزاج الذي سدّته بلقيس النفس التي هي ملكتهم. والعرم الجرذ (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)
__________________
(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.