سلوكه وعرفانه وتذكره لأوطانه والتذّ بلقائه وتصفّى بصفائه وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأولياء والأنبياء والأصفياء والشهداء. والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة ، ونشأته الاعتقادات والأعمال الصالحة كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم ومحبة العرفاء والأولياء إياهم ، ومحبة الأنبياء العامة أممهم. والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأغراض الجزئية كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واجتلاب الأموال. والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش وتيسير المصالح الدنيوية كمحبة التجار والصناع ومحبة المحسن إليه للمحسن ، فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل زال بزواله وانقلب عند فقدانه عداوة لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه من اللذة المعهودة والنفع المألوف مع عدمه وامتناعه لزوال سببه ، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين أطلق الكلام وقال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) لانقطاع أسباب الوصلة بينهم وانتفاء الآلات البدنية عنهم وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا قد زالت اللذات والشهوات وبقيت العقوبات والتبعات ، فكل يمحق صاحبه ويبغضه لأنه يرى ما به من العذاب منه وبسببه. ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم كما قال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢).
ولعمري إن القسم الأول أعزّ من الكبريت الأحمر وهم الكاملون في التقوى البالغون إلى نهايتها ، الفائزون بجميع مراتبها ، اجتنبوا أولا المعاصي ثم الفضول ثم الأفعال ثم الصفات ثم الذوات ، فما بقيت منهم بقايا حتى يتنافسوا فيها ويضنوا بها عن حبيبهم فيفسد محبتهم ، بل ما بقي منهم إلا نفس الحب. وأما الفريق الثاني فاقتصروا على الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الدنيا وما فيها بالفضل الجسيم فأبقى محباتهم فيما بينهم لبقاء أسبابها وهي الصفات المتماثلة والهيئات المتشابهة في ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخط الله وعقابه ، فهم العباد المرتضون أي كلا القسمين لاشتراكهما في طلب الرضا فلذلك نسبهم إلى نفسه بقوله : يا عباد لا خوف على الفريقين لأمنهم من العقاب ولا هم يحزنون على فوات لذات الدنيا لكونهم على ألذ منها وأبهج وأحسن حالا وأجمل ، وإن تفاوت حالهم في اللذة والسرور والروح والحبور بما لا يتناهى ، وشتان بين محمد ومحمد.
__________________
(١) سورة ص ، الآية : ٢٤.
(٢) سورة سبأ ، الآية : ١٣.