والجنة التي أمروا بدخولها هي جنة النفس لاشتراك الفريقين فيها دون جنتي الصفات والذات المخصوصتين بالسابقين بدليل قوله بعده : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإنما الجنة التي هي ثواب الأعمال جنّة النفس لقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).
[٧٧ ـ ٨٠] (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))
(وَنادَوْا يا مالِكُ) سمي خازن النار مالكا لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)) (١) كما سمّى خازن الجنة رضوانا لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه. وقيل : الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وهو الطبيعة الجسمانية الموكلة بأجساد العالم والهيولى الظلمانية أو النفس الحيوانية الكلية الموكلة بالتأثير في الأجساد الحيوانية المستعلية على النفوس الناطقة المحبوسة في قيود اللذات الحسيّة والمطالب السفلية ، وإنما لا يتعذب بالنار لكونه من جوهر تلك النار فهي له جنة ، وللجهنميين نار لتنافي جواهرهم وجوهرها وتباينهما. واختصاص ندائهم بمالك دون الله تعالى لاحتجابهم وبعدهم عن الله بالكلية وتعبّدهم لمالك بالنية والأمنية ، وما ذلك النداء إلا توجههم إليه وطلب المراد منه ودعوتهم بقولهم : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) إشارة إلى تمني زوال بقية الاستعداد بالكلية وإماتة الغريزة الفطرية لئلا يتأذوا بالهيئات المؤذية والنيران المردية ، أو تمني تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدّة التألم بالعذاب الجسماني و (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إشارة إلى المكث المقدّر بحسب رسوخ الهيئات وارتكام الذنوب والآثام إن كانت الاستعدادات باقية والاعتقادات صحيحة أو الخلود فيها إن لم تكن ، فإن المكث أعم من المتناهي وغيره. وكذا المجرم أعم من الشقي الأصلي وغيره ، وعلى هذا حمل الخلود في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) (٢) على المكث الطويل الأعم من المتناهي وغيره ، فإنه قد يستعمل في العرف بمعناه كثيرا مجازا ، وإنما جعلنا المجرم شاملا للقسمين المذكورين من الأشقياء لمقابلته للمتقي الشامل للقسمين المذكورين من السعداء وإن خصصناه بالشقي المردود المطرود في الأزل كان المكث في قوله : (ماكِثُونَ).
(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) كل ما خطر فينا بالبال من الأشرار ينتقش في النفوس
__________________
(١) سورة النازعات ، الآيات : ٣٧ ـ ٣٩.
(٢) سورة الزخرف ، الآية : ٧٤.