(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أيها القوى البدنية أرض البدن (مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) من الأعضاء والجوارح كالعين والأذن والأنف وغيرها (وَأَنْزَلَ) من سماء الروح ماء الإدراك والمدد الروحاني (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أصنافا من الإدراكات والأفاعيل والخواص والهيئات والملكات المخصوصة بكل قوة منكم (كُلُوا) اغتذوا وتقووا بما يختص بكم من الأحوال والأخلاق والأمداد والمواهب كالرضا والصبر وعلم الأسماء والخواص والأعداد وسائر الإدراكات والإرادات والمقامات (وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) القوى الحيوانية بما يختص بها من الأخلاق والآداب (مِنْها خَلَقْناكُمْ) أنشأناكم على حسب اختلاف أمزجة الأعضاء التي هي مظاهرها (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بإماتة عند الرياضة حتى يلازم كل محله ويندس فيه لا حراك به ولا يتطلب التجاوز عن حدّه والاستيلاء على غيره بمحو صفات النفس حتى الفناء (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) عند البقاء بالحياة الموهوبة الحقيقية فتعتدل حركاتها وتفضل ملكاتها.
[٥٦ ـ ٦٣] (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) أَرَيْناهُ آياتِنا) من الحجج والبينات الدالة على التجرّد عن المواد ووجود الأنوار (فَكَذَّبَ) لكونها مادة (وَأَبى) القبول لامتناع إدراكها للمجرّدات وأنكر إزعاجها عن وكرها البدني بقوله : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) ونسب البرهان إلى السحر لقصورها عن إدراكه وعجزها عن قبوله وأغرى القوى التخيلية والوهمية على المعارضة والمجادلة وقلما أذعنت النفس للبرهان النير والحق البين بدون الرياضة والإماتة ، وكلما أورد عليها حرّضت الوهم والتخيل على التشكيك والقدح. والموعد هو وقت تركيب الحجة وترتيب المقامات وذلك وقت زينة النفس الناطقة بالمدركات وحشر القوى العقلية والروحانية لاستحضار المعلومات والمخزونات (ضُحًى) إشراق نور شمس العقل الفعال إذ هناك تعرض النفس عن قبولها ويجمع كيدها من أنواع المغالطات والوهميات ويقمعها القلب باليقينيات وإظهار أكاذيبها المفتريات. والتنازع الواقع بين القوى النفسانية هو عدم مسالمتها في طاعة القلب وانجذاب كل منها إلى لذته متمانعة متخالفة. وإسرارها النجوى استبطان الكل الدواعي المخالفة للقلب مع تخالفها في أنفسها. ونسبتها إلى السحر إشارة إلى عجزها عن إدراك معانيها وخفاء براهينها