ذروة الولاية غير المبعوث للنبوّة كرامة. والفرق بينهما أن الإعجاز مقارن للتحدّي والمعارضة دون الكرامة ومن المقبل على الدنيا المعرض عن العالم الأعلى سحر ، فكانت نفس الساحر في بدء فطرتها قوية مخصوصة بهيئات مؤثرة في هذا العالم وأجرامه إلا أنها أعرضت عن مبدئها بالركون إلى العالم السفلي وانقطعت عن أصل القوى والقدر ومنبع التأثير والقهر بالميل إلى عالم الطبع ، فلا يزال يضعف ما فيها من الهيئة النورية والشعاع القدسي كما لا يزال يزداد في نفس النبيّ والوليّ بالإقبال على الحق والائتلاف بنور القدس والتأييد بالقوة الملكوتية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ولا جرم ينكسر من النبيّ حين عارضه وينقمع بنفسه إذا قابله ، فهو أعرف الناس بالنبيّ عند عجزه وإنكاره وأقبل الخلق لدعوته وأنواره ، وأسبقهم إلى الإقرار به لكونه أقربهم في الاستعداد إليه ما لم يبطل استعداده الأول بالكلية ولم يغلب عليه دين الطبيعة السفلية.
[٧٢ ـ ٧٤] (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤))
(لَنْ نُؤْثِرَكَ) كلام صادر من عظم الهمة الحاصلة للنفس بقوة اليقين ، إذ قوة اليقين في القلب تورث النفس عظم الهمة وهو عدم مبالاتها بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسيّة في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية العقلية ، ولهذا استخفوا بها واستحقروها بقولهم : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا). (لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي : يستر بنوره الهيئات المظلمة والصفات الرديئة التي عرضت لنفوسنا بسبب الميل إلى اللذات الطبيعية ومحبة الزخارف الدنيوية (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي : معارضة موسى لأنهم لما عرفوه بنور استعدادهم وعلموا كونه على الحق ، فاستعفوا عن معارضته فأكرههم اللعين (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) في القيامة الصغرى مجرما مثّقلا بالهيئات البدنية المميلة إلى الأجرام الطبيعية (لا يَمُوتُ فِيها) بالموت الطبيعي ، فلا يشعر بالآلام (وَلا يَحْيى) بالحياة الحقيقية فينجو من تبعات الآثام.
[٧٥ ، ٧٦] (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))
(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) بالإيمان اليقيني (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) من الفضائل النفسانية المزكية للنفوس (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) من جنات الصفات بحسب درجات ترقيهم في الكمالات.