(وَذَا النُّونِ) أي : الروح الغير الواصل إلى رتبة الكمال (إِذْ ذَهَبَ) بالمفارقة عن البدنية (مُغاضِباً) عن قومه ، القوى النفسانية لاحتجابها وإصرارها على مخالفته وإبائها واستكبارها عن طاعته (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نستعمل قدرتنا فيه بالابتلاء بمثل ما ابتلي به ، أو : لن نضيق عليه ، فالتقمه حوت الرحمة لوجوب تعلّقه بالبدن في حكمتنا للاستعمال (فَنادى) في ظلمات المراتب الثلاث من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية بلسان الاستعداد (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) فأقرّ بالتوحيد الذاتي المركوز فيه عند العهد السابق وميثاق الفطرة والتنزيه المستفاد من التجرّد الأول في الأزل بقوله : (سُبْحانَكَ) واعترف بنقصانه وعدم استعمال العدالة في قومه فقال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بالتوفيق بالسلوك والتبصير بنور الهداية إلى الوصول (وَنَجَّيْناهُ) من غمّ النقصان والاحتجاب بنور التجلي ورفع الحجاب (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بالإيمان التحقيقي الموقنين.
[٨٩ ـ ٩٠] (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))
(وَزَكَرِيَّا) الروح الساذج عن العلوم (إِذْ نادى رَبَّهُ) في استدعاء الكمال بلسان الاستعداد ، واستوهب يحيى القلب لتنتعش فيه العلوم ، وشكا انفراده عن معاضدة القلب في قبول العلم وحيازة ميراثه مع علمه بأن الفناء في الله خير من الكمال العملي حيث قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) من القلب وغيره (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) القلب بإصلاح زوجه النفس العاقر لسوء الخلق وغلبة ظلمة الطبع عليها بتحسين أخلاقها وإزالة الظلمة الموجبة للعقر عنها (إِنَّهُمْ) إن أولئك الكمل من الأنبياء (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : يسابقون إلى المشاهدات التي هي الخيرات المحضة بالأرواح (وَيَدْعُونَنا) لطلب المكاشفات بالقلوب (رَغَباً) إلى الكمال (وَرَهَباً) من النقصان أو رغبا إلى اللطف والرحموت في مقام تجليات الصفات ورهبا من القهر والعظموت (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) بالنفوس.
[٩١] (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ) أي : النفس الزكية الصافية المستعدّة العابدة التي أحصنت فرج استعدادها ومحل تأثير الروح من باطنها بحفظه من مسافحي القوى البدنية فيها (فَنَفَخْنا فِيها) من تأثير روح القدس بنفخ الحياة الحقيقية فولدت عيسى القلب (وَجَعَلْناها) مع القلب علامة ظاهرة وهداية واضحة (لِلْعالَمِينَ) من القوى الروحانية والنفوس المستعدّة المستبصرة يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.