والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا.
أى : ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة أحكاما أخرى تغايرها وتخالفها ، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك.
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات ؛ لأنه لا يكون إلا قليلا ـ وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا ـ بالنسبة لطاعة الله ، والرجاء في رحمته ورضاه.
وهذا النهى الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان : (فَلا تَخْشَوُا) ، و (لا تَشْتَرُوا) وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم. إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان ، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب.
وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات ـ إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة» (١).
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود ، فيحكم بغير شريعة الله فقال ـ تعالى ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).
أى : كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله : وقضى بغيره من الأحكام ، فأولئك هم الكافرون بما أنزله ـ سبحانه ـ لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به. والجملة الكريمة ـ كما يقول الآلوسى ـ تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير من الإخلال به أشد تحذير.
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
١ ـ سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على نبيه موسى ـ عليهالسلام ، فقد أضاف ـ سبحانه ـ إنزالها إليه ، فكان لهذه الإضافة ما لها من الدلالة على علو مقامها ، كما بين ـ سبحانه ـ شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق ، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم.
وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدى اليهود بالتحريف والتبديل ، والزيادة
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٤٥