وأجداده مؤثرا الدليل والنظر السليم ، على تقليد الآباء في الباطل : وإن حالكم أيها العرب لعجيب!! فإذا كنتم مصرين على التقليد مغرمين به فها هو ذا أبوكم إبراهيم أشرف العرب قاطبة أحق بالتقليد من غيره ، فقلدوه في هجر الأصنام ، وترك عبادة الأوثان واحتقار ما عليه الآباء والأجداد إذا كان منافيا للعقل والمنطق السليم.
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إننى برىء منكم ، وبرىء مما تعبدون من دون الله حيث إنها أصنام لا تنفع ولا تضر ، لكن الله خلقني فسوانى ، وفطرني وأتمنى على أكمل صورة فإنه سيهدينى مستقبلا ، ويهديني حالا ، (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) تقوم مقام قولك : (لا إله) وقوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) تقوم مقام (إلا الله) فكأنه قال : لا إله إلا الله ، ومعلوم أن هذه ـ لا إله إلا الله ـ كلمة التوحيد ، وإبراهيم الخليل جعلها باقية في ذريته (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يا بَنِيَّ ، إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١) جعلها كلمة باقية في عقبه ، ووصى بها بنيه لعلهم يرجعون إلى التوحيد الخالص البريء من الشرك في كل صوره وقد كان ذلك كذلك ، فلا يزال في عقب إبراهيم وذريته من يعبد الله حقا إلى يوم القيامة ولكنهم قلة فلم يرجع أكثرهم عن الشرك ، وما عاجلهم ربك بالعقاب الذي يستحقونه (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) على معنى : بل أعطيتهم نعما أخرى غير الكلمة الباقية ليشكروا صاحبها ويوحدوه ، ولكنهم لم يفعلوا بل زاد طغيانهم لغرورهم بالدنيا وتمسكهم بحبها ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يكتف بأن جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم بل متعهم بالنعم التي لا تحصى ، وأرسل لهم رسلا (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أى : جاءهم الحق على لسان رسول بين المعجزة ظاهر الصدق ، فانظر إلى هؤلاء المشركين : زادهم الله من نعمه وأمدهم بفضله ، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وضلالا ، فلما جاءهم الحق من عند الله قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون.
هذه المواقف العجيبة منهم وتلك الأباطيل رأسها وأساسها حب الدنيا وتمتعهم بنعيمها الباطل ، واعتقادهم أنها كل شيء ، ولذلك قالوا منكرين كون محمد اليتيم الفقير رسولا من عند الله. قالوا : لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أنكروا أساس النبوة فلم يفلحوا فلجأوا إلى طريق آخر فقالوا : النبوة والرسالة درجة رفيعة
__________________
١ ـ سورة البقرة آية ١٣٢.