لقد ثبت في الصحاح أن الجن (١) استمعوا للنبي صلىاللهعليهوسلم وهو يصلى بأصحابه ، ويقرأ القرآن بصوت أمال الجن فصرفهم إليه ، فلما استمعوا ، وأفهموا حقائق من كلام الله انطلقوا إلى أهليهم يبشرونهم ويحملون إليهم ما عرفوه ، ولقد أوحى الله إلى النبي بهذا ليطمئن خاطره ، وتستمر نفسه كما هي قوية شديدة في دعوتها ، فإن أعرض عنها المشركون فها هم أولاء الجن يؤمنون ويدعون غيرهم للإيمان بها ، نزلت هذه الآية بالإجمال في سورة الأحقاف ، الآيتان : ٢٩ ، ٣٠ ومرة بالتفصيل كما هنا ، نزلت فيما نزلت تبكيتا لقريش والعرب ، حيث تباطأوا عن الإيمان وكانت الجن أسرع منهم في قبول الدعوة مع أنهم من غير جنس البشر ، أما القرشيون والعرب فقد كذبوا حسدا من عند أنفسهم وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
المعنى :
قل لهم يا محمد : لقد أوحى الله إلىّ أنه استمع نفر من الجن إلى القرآن فقالوا لقومهم عند رجوعهم إليهم : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن بديعا يدعو إلى العجب لأنه مخالف لكلام البشر ، بل ولكل الكتب السابقة ، في نظامه وأسلوبه وأغراضه ومعانيه ، وهو كتاب يهدى إلى الرشد وإلى الخير والحق ، وإلى الصراط المستقيم ، فنشأ عن ذلك أننا آمنا به وبمن أنزل عليه ، وبعد ما آمنا بالقوى القادر الذي أنزله على عبده محمد ، ولن نشرك بعد هذا بربنا أحدا من خلقه أيّا كان.
(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) (٢) أى : وصدقنا أن الحال والشأن ارتفع جلال ربنا وعظمته أى : عظمت عظمته وتعالى سلطانه ، فهو صاحب الملك والسلطان ، تبارك
__________________
(١) عالم آخر غير عالمنا ، مستتر لا يرى ، الله أعلم بحقيقته ، ولا نعرف عنه الا ما أخبرنا به الحق أو رسوله في خبره الصحيح ، فهو مخلوق من نار (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) وقد بعثت لهم الرسل كما نص القرآن (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)؟ وهم كالبشر سواء بسواء ، يثاب مؤمنهم ، ويعاقب كافرهم ، وهل أمر النبي بدعوتهم فدعاهم أو هم صرفوا إليه فدعاهم ثانيا ، الله أعلم. هذا عالم غيبي فلا نقول فيه إلا ما قاله خالقه الذي يعلمه.
(٢) هنا بضع عشرة آية مفتتحة بأن ، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها وقيل : الكسر في الجميع ، وقيل : اتفقوا على الفتح في (أنه استمع). (وأن المساجد لله) ووجه الخلاف في ذلك أن قوله تعالى : قل أوحى إلى أنه استمع ، وقوله : فقالوا إنا سمعنا .. فآمنا به تصلح أن تكون معطوفا عليه ثم جاءت هذه الآيات فهل تعطف بالفتح على الموحى به الذي هو أنه استمع؟ أو بالكسر على المقول أى : إنا سمعنا ، وجوز بعضهم الفتح عطفا على محل الجار والمجرور في قوله : آمنا به كأنه قيل : صدقنا به ، وصدقنا بأنه تعالى جد ربنا ، كذلك البواقي ، ولك أن تقدر له فعلا يناسب المقام كما ذكر في الشرح.