وهذا يوجب أن تفسر عملية الحفظ وجه آخر وهو الذي ذهب اليه الالهی وهو ان تكون نسبة الصور العلمية إلى النفس كنسبة الفعل الى فاعله ، وان هذه الصور موجودة بعينها في صنع النفس بوجود لا يجري عليه التغير ولا يطاله الدثور والانعدام.
فعلى القول الأول (المادي) لا يكون للصور العلمية بما هي هي أي بقاء ، بل يكون البقاء لاثارها.
وعلى قول الالهي تكون ذات الصور العلمية ـ بأي نحو حصلت ـ موجودة بوجود واقعي في النفس ولا تكون الغفلة عنها سبباً لانعدامها.
وبالجملة لا تتحقق واقعية الاسترجاع (١) الا على القول بوجود وبقاء الصور العلمية نفسها في موطنها من النفس ، ولا يتحقق هذا البقاء العيني للصور الا على القول بتجرد هذه الصور ، وعدم انعدامها واندثارها وتغيرها. اذ لو كانت كالاشياء المادية يطرأ عليها الانعدام والتغير لما بقيت محفوظة بعينها ولما أمكن الاسترجاع (وهو التفات الذهن الى ذات الصور) حينئذ طبعاً.
وتجرد المدرَك مستلزم لتجرد المدرِك فاذا كانت الصور المعلومة بوسيلة النفس مجردة فذات النفس المدرِكة تكون مجردة بطريق أولى.
فهذا البرهان يثبت تجرد الصور أولا وتجرد مدركها (وهو النفس الانسانية) ثانياً ، وهكذا يبطل انحصار الوجود في المادة.
وقد أشير الى هذه الحجة في الاسفار اذ قال : «الحجة الحادية عشرة : ان كل صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب من الأسباب فاذا زالت عنه وبقي فارغاً عنها فيحتاج في استرجاعها الى استيناف سبب أو سببية كالماء اذا تسخن بسبب كالنار مثلا ثم اذا زالت عنه السخونة لا يمكن عودها اليه الا بسبب
__________________
(١) ومرحلة التشخيص وهي المرحلة الرابعة في عمليات الادراك.